طه حسين.. المتمرد

رفعت رشاد

رفعت رشاد

كاتب صحفي

التمرد أحد أبرز صفات العميد . لم يرضى بما استقر من أوضاع . رفض الواقع المريض.

كان صلبا في تمرده وعناده في مواجهة الأوضاع العلمية والتعليمية والثقافية والاجتماعية.

كان طه حسين طليعيا في تمرده , ركز على الثقافة والتنوير وانتشال المجتمع من غياهب الماضي السحيق ورفعه إلى مستوى الحاضر حتى يواكب العصر.

كان تمرد العميد منهجيا , لم يتمرد لمجرد التمرد , بل سعى حثيثا لكي يتمرد على ما اعتقد أنه فاسد يدمر المجتمع , فسلح نفسه بالعلم الحديث وبمنهج الشك الذي قال به فيلسوف فرنسا الكبير رينيه ديكارت , فكان هذا المنهج أسلوبا لطه حسين يطبقه فيما ينقده ويكتبه وينظره , وعرف به , واستخدمه العميد في تقليب صفحات التاريخ خاصة تاريخ الأدب العربي من شعر ونثر حتى يمكن تقويم المعوج منه وتصحيح المفاهيم حوله.

تمرد طه حسين على الدراسة والمناهج الأزهر المليئة بالإحالات وولع بالدراسات الأجنبية وسارع للالتحاق بالجامعة المصرية فور افتتاحها عام 1908 وتم قبوله رغم انه فقير وضرير وليس له وساطة.

انغمس طه في دراسة المقررات في علم الآداب وأعجبه علم التاريخ ودرس على المستشرقين الأجانب الذين كانوا من أساتذة الجامعة بعد افتتاحها.

وجد طه فيما يدرسه في الجامعة علوم تجذبه ويتفاعل معها ويعجب بها مقارنة بعلوم الأزهر الجامدة .

استنار طه حسين بدراسته الفلسفة وعلم الاجتماع وحصل على الدكتوراه في الأدب عن شاعره المقرب أبي العلاء المعري الذي ظل أثيرا لديه طوال حياته وكتب فيه وعنه العديد من الكتب.

اوفدته الجامعة المصرية إلى فرنسا ليدرس في جامعة مونبيلييه علوم الاجتماع والغاتين الفرنسية واللاتينية وحصل من هناك على الدكتوراه في فلسفة ابن خلدون ليعود في عام 1919 ويصبح أستاذا في الجامعة وليخض معارك بشان الأدب العربي مع أمير الشعراء أحمد شوق بك ومع جورجي زيدان.

لكن في عام 1925 كانت أولى معاركه الكبرى عندما أصدر كتابه الأشهر " الشعر الجاهلي " مطبقا في كتابته منهج الشك الديكارتي وقال فيه أن كثيرا من الشعر الجاهلي منحول أو كتب معظمه بعد الإسلام .

اتهم بأن تطبيق هذا المنهج يمكن ان يمتد إلى كثير من المقدسات وبالتالي فهو مشكوك في إسلامه . كانت المعركة كبيرة ووصلت إلى البرلمان وأحيل طه إلى التحقيق في النيابة ولولا أن وكيل النائب العام محمد نور الذي دخل اسمه التاريخ كان مثقفا ومتنورا لما خرج طه حسين من النيابة سالما.

ولكن الحملة ضده خارج النيابة لم تسكن , فكانت مظاهرات طلاب الأزهر وهاجموا سعد زغلول الذي انفعل وقال : اعتبروه مجنونا , وقد تألم طه حسين بسبب ما قاله سعد زغلول وأحنى رأسه للعاصفة وأرسل للجامعة الكتاب وقال : تصرفوا فيه كما تحبون كما انني مستقيل , لكن الجامعة ساندته ورفضت استقالته.

بعد أن مرت العاصفة حذف العميد الفصل الذي أثار الجدل لكنه أضاف أربعة فصول أخرى سارت على نفس منهجه الديكارتي مما أثار إعجاب زملائه الأساتذة المتنورين فانتخبوه عميدا لكلية الآداب عام 1928, لكن الأساتذة الأجانب في الجامعة ومعهم المندوب السامي البريطاني احتجوا على انتخابه لأن من المعتاد ان يكون العميد أجنبيا , ولما زاد الضغط , فاتحه وزير المعارف فيما تتعرض له الحكومة من ضغط فاشترط طه حسين ان يتولى العمادة ولو لمدة يوم واحد ثم يستقيل , وفي عام 1930 انتقم أساتذة الجامعة المصريين من الأجانب وانتخبوا طه حسين مرة أخرى عميدا للآداب ليصبح اول مصري يتولى هذا المنصب وينال معه لقبه الأبدي " عميد الأدب العربي ".

لكن الأزمات تطارد المتمردين الذين على شاكلة العميد.

في عام 1932 قررت الجامعة منح عدد من الشخصيات الدكتوراه الفخرية ومنهم عبد العزيز فهمي باشا وعلي ماهر باشا وغيرهم , واعترض العميد بقوة على ذلك مؤكدا ضرورة حماية قيمة درجة الدكتوراه الفخرية من أن تمنح لدواعي سياسية.

واحتدمت الأزمة وتمسك العميد برأيه فنقله وزير المعارف إلى ديوان عام الوزارة لكن طه حسين رفض النقل واستلام منصبه الجديد فأنهت الحكومة خدمته وأحالته إلى التقاعد وعمره 43 عاما وكان ذلك إبان حكومة إسماعيل صدقي.

عاش طه حسين عمرا طويلا تخلله مواقف متمردة عديدة وارتفع إلى أعلى القمم وهبط إلى قاع الحياة لأسباب قاهرة لكنه كان رمزا للمقاومة وللتمرد , لم يحد عن مبدئه وعناده وتمرده , لكنه صنع من إبداعه وقدراته المتعددة اسما خالدا في تاريخنا الثقافي والأدبي .