الطريق إلى أكتوبر (3)
بعد النكسة أدرك عبد الناصر أن سياسة عدم الانحياز التي انتهجتها مصر وكان أحد كبار مؤسسيها خلقت موقفا غير متكافئ لصالح إسرائيل , ففي حين أن انحياز إسرائيل للولايات المتحدة أدى إلى حصولها على الدعم الكامل في الحرب فإن عدم انحياز مصر للاتحاد السوفييتي أدى إلى وقوفه موقف المراقب أو المتفرج نظرا لعدم وجود اتفاقيات بينه وبين مصر تبيح له التدخل العسكري , لذلك قرر عبد الناصر أن سياسة عدم الانحياز لن تتيح لمصر إزالة آثار العدوان وتحرير الأرض , لذلك كان لابد من الانحياز للاتحاد السوفييتي سواء في حالة السلم أو في حالة الحرب حتى يكون جزء من الحرب والصراع في المنطقة.
استجاب الاتحاد السوفييتي لتوجه مصر وإن كان أبدى عدم ممانعته في أن تبقى مصر في حركة عدم الانحياز , لكنه منح مصر جميع المزايا التي يتمتع بها حلفاؤه ومنها تعويض مصر بالأسلحة وإرسال خبرائه العسكريين لتدريب الجيش المصري وخلال أسابيع قليلة كان لدى الجيش المصري ما يقرب من ألف دبابة وصارت حالة الجيش المصري في وضع يقارب 70% من إمكانياته قبل الحرب . وحدد عبد الناصر فترة إزالة العدوان وتحرير الأرض بفترة ثلاث سنوات , لكن تغير الأوضاع الداخلية وتذمر الشعب وقيام المظاهرات التي تتعجل الحرب جعله يدرك أن الشعب لن ينتظر ثلاث سنوات لإشعال حرب نظامية شاملة , لذلك قرر بدء حرب الاستنزاف التي طالت لسنوات والتي أجهدت العدو وكبدته خسائر فادحة وكانت ميدانا لاستعادة ثقة مقاتلينا في أنفسهم وفي القيادة.
جاء نصر وراء نصر خلال حرب الاستنزاف ففتح ذلك شهية أفراد الجيش للتوسع واختراق الخطوط الخلفية للعدو ونسجت قصص بطولات على مدى تلك السنوات كانت تمهيدا للنصر في أكتوبر بعدما تمرس عساكرنا وخبروا ميدان المعركة ودرسوه شبرا شبرا وكان ذلك عونا لهم عند العبور واقتحام المانع المائي وتدمير خط بارليف.
بدأت حرب الاستنزاف في سبتمبر 1968 بما سمي معركة المدافع حيث دكت المدافع المصرية شرق القناة والمواقع الإسرائيلية لمدة خمس ساعات ونصف وأعادت مرة أخرى هذه العملية في 23 أكتوبر . فوجئ العدو بما حدث فقامت طائراته الهليوكوبتر وقواته المحمولة جوا بقصف العمق المصري.
بعد ذلك نوقف حرب الاستنزاف لشهور لكنها كانت فترة سلبية تمام حيث بدأت إسرائيل بناء خط بارليف وحرصت على أن يكون ذلك في جنح الظلام ولكن القوات المصرية كانت تضرب بعنف وانتشر القناصون المصريون لصيد رؤوس الإسرائيليين وتوغلت القوات المصرية في عمق سيناء.
لكن إسرائيل بدأت تنفيذ ما سمي الاستنزاف المضاد وكان أهم الأهداف القضاء على نظم الدفاع الجوي المصرية وبالفعل انهار الدفاع الجوي تماما أمام الضربات الإسرائيلية وفتحت السماء أمام الطيران الإسرائيلي مرة أخرى وصار الضرب في عمق مصر وكان هدف إسرائيل من تكثيف الضرب إسقاط عبد الناصر وبعدها يمكن التفاوض بعد أن يستسلم المصريون .سافر عبد الناصر إلى موسكو وأسفرت زيارته عن اتفاق خطير حيث قرر الاتحاد السوفييتي تزيود مصر بصواريخ سام 3 وتزويدها بالفنيين اللازمين لتشغيلها , وكانت المرة الأولى التي يرسل فيها الاتحاد السوفييتي قواته خارج البلاد منذ الحرب العالمية الثانية.
وبعد انتهاء بناء حائط الصواريخ كما ذكرنا من قبل تم تحييد التفوق الجوي الإسرائيلي على جبهة القناة لكنه بقى متفوقا في سيناء.
كانت حرب الاستنزاف مجهدة للجيش المصري كما كانت بالنسبة لإسرائيل ولم تحقق فوزا حاسما أو تنقل مكانتنا إلى الأمام لكنها كانت ضرورية لأسباب معنوية فكانت صرخة تؤكد أننا لن نستسلم وسنقاوم وسنضرب وسنحسن من أنفسنا لخوض الحرب الكبرى.