حياة كريمة في «البلد»..!

لسبب ما لم أتمكن من التخلى عن مدينتى الصغيرة التى وُلدت ونشأت بها.. بل ما زلت حتى لحظة كتابة هذه السطور أعيش فيها أنا وأسرتى.. تلك المدينة التى تقع فى أول خط الصعيد.. والتى تحمل شعاراً لطالما بعث بداخلى شعوراً بالحب الشديد لها.. عروس الصعيد.. مدينة المنيا..!

بها كانت طفولتى هادئة كطبيعتها الجميلة.. مسالمة كأهلها البسطاء البشوشين باستمرار.. حتى بعد أن جذبتنى العاصمة رويداً رويداً بالعمل.. ما زلت أتردد فى اتخاذ قرار الانتقال للحياة بعيداً عنها بشكل كامل.. ولا أظن أننى سأتمكن من اتخاذه أبداً..!

أكثر من أربعين عاماً كاملة أعيش فى هذه المدينة الصغيرة.. أتشرف بأن تخرجت من جامعتها، بل وعملت بها بعد التخرج حتى صرت أستاذاً بكلية الطب.. كل هذا ولم أشعر بأى تغير يطرأ عليها قط.. ربما يتم رصف أحد الطرق كلما أتى رئيس جديد لمجلس المدينة.. أو تجد مبنى حكومياً قد تم طلاء واجهته إذا أسعدنا الحظ بزيارة أحد الوزراء.. ولكننى لم أجد أى تطور جوهرى قد حدث بها.. ولا بقريتى الصغيرة التى تنتمى إليها عائلتى.. حتى انطلقت بها شرارة التغيير التى طالت الدولة كلها فى السنوات الأخيرة..!

الشرارة كانت ذلك المشروع الذى يُدعى «حياة كريمة».. تلك الفكرة التى خرجت من رحم البرنامج الرئاسى لتأهيل الشباب للقيادة.. والذين أخذوا على عاتقهم سبل تنفيذها فى كل محافظات مصر بعد ذلك..!

لقد كانت تلك المبادرة هى الشرارة التى انطلقت فى هذه المحافظة الصعيدية الهادئة ليتغير شكلها بشكل كامل.. وتتحول قراها إلى خلية نحل من المتطوعين والعاملين بالمشروعات التى بدأت فى تنفيذها تلك المبادرة الفريدة من نوعها..!

إحدى السيدات الفضليات التى كانت تساهم فى صنع بعض الصدقات الجارية كأسقف المنازل ووصلات المياه بالقرى الفقيرة أفصحت لى منذ فترة قصيرة أنها لم تعد تجد فرصة لما كانت تفعله.. وأن مشروع حياة كريمة أصبح يفعل كل شىء تقريباً ويسلم الناس منازل كاملة التشطيب وفى زمن قياسى..!

الخبرة نفسها بلغتنى من مصادر أخرى لبعض المساهمين فى أعمال الخير كتوصيل المياه النظيفة أو الصرف الصحى فى بعض القرى فى محافظة المنيا وغيرها من محافظات الصعيد.. مما يشى بأن الأمر قد أصبح حالة عامة لمسها الجميع بالفعل..!

المبادرة أفضل ما فيها فى رأيى أن النظام أصبح يعترف بهؤلاء الذين يقعون تحت خط الفقر بهذا الوطن.. ويقر فيها بأنهم يحتاجون حتماً -ويستحقون قطعاً- أن يحيوا حياة آدمية كريمة.. وأن يتوفر لهم الحد الأدنى من المعيشة المقبولة..!

هى خيار استراتيجى متميز لوطن يخوض معركته الأكبر لإعادة بنائه من جديد.. فى ظل تحديات أقل ما يقال عنها أنها غير مسبوقة فى تاريخه.. فالمعركة اليوم تتخطى حاجز العدو الظاهر إلى ما هو أبعد وأكثر خطورة.. إنها معركة ضد كل الأفكار الهدامة التى تروج أن الدولة لا تنظر إلا للعاصمة وحدها.. وأن من يبحث عن الفقر سيجده فى أعماق القرى -وهو أمر صحيح إلى حد كبير- لا فى شوارع القاهرة.. تلك الأفكار التى تاجر بها الكثيرون عبر عقود ليضربوا شروخاً فى علاقة الدولة بالمواطن.. واستغلوا تلك الشروخ فى خلق بيئة سمحت بنموهم الشيطانى بين الناس!!

تخبرنا التقارير الصادرة من المبادرة أن أكثر من ١٩٠ قرية قد استفادت من مشروعاتها فى محافظة المنيا حتى الآن بواقع ٣٢٦٥ مشروعاً.. وأن نسب التنفيذ فى معظم المشروعات قد تخطت الـ٩٠٪.. فضلاً عن تلك التى تم الانتهاء منها بشكل كامل وتسليمها للعمل..!

المشروعات تتنوع بين محطات للصرف الصحى ورفع المياه بلغ عددها ١٧٣ محطة.. ومحطات معالجة لمياه الشرب بلغت ١٩٠ محطة.. فضلاً عن وحدات الرعاية الصحية الأساسية التى بلغت ٤٧ وحدة.. و٤٩ مركز شباب.. هذا بخلاف مشروعات توصيل الغاز الطبيعى والألياف الضوئية..!

الطريف أن كل ما سبق قد تم تجهيزه وتنفيذه فى مدة زمنية لم تتجاوز الأعوام الثلاثة.. وأنه فقط يُعد مرحلة أولى ستتبعها مراحل أخرى فى الفترة القادمة.. مما يعنى أنه لن تترك المبادرة قرية واحدة على أرض هذا الوطن دون تطوير..!

لقد كانت البنية التحتية لهذا الوطن -وخاصة فى الصعيد- تعانى منذ فترة ليست بالقصيرة.. ومبادرة حياة كريمة استهدفت تلك البنية التحتية المتهالكة.. وأعتقد أنها نجحت إلى حد كبير حتى الآن.. حتى إن معظم الطلبات التى أجدها بين أهالى قريتى تحولت من تلك الطلبات المعتادة برصف طريق أو إنارة آخر.. إلى محاولة إدراج القرية ضمن القرى التى تستهدفها مبادرة حياة كريمة مبكراً قدر الإمكان.. فهم باتوا يعرفون ماذا تفعل المبادرة حين تدخل قرية..!

من جديد تثبت الجمهورية الجديدة انحيازها للمواطن الكادح المعدم.. ومرة أخرى يراهن الرئيس على الشباب بجوار الحكومة.. والذى لم يخذله أبداً..!

لقد تمكنت المبادرة من أن تغير شكل محافظتى الصعيدية.. وجعلت قرارى بتركها والحياة فى العاصمة أصعب كثيراً مما كان.. أو هكذا أعتقد..!