«مئوية هيكل».. و«أنت من أهله يا أستاذ»
أسعدنى الحظ وحضرت الاحتفاء بمئوية ميلاد الأستاذ محمد حسنين هيكل، فى حفل أقيم بمتحف الحضارة يوم 23 سبتمبر 2023.. واستوقفتنى عدة مشاهد لا تزال دلالاتها ماثلة فى ذهنى.
يقينى أن تجربة الأستاذ هيكل هى بنت زمانها ونتاج عصرها وتحولاته الكبرى، وعلامة مضيئة فى تاريخ الأمة العربية، بما أضافته للصحافة والتاريخ وفن الكتابة، وما أسهمت به من أدوار وتفاعل بالكلمة والحركة فى محطات فاصلة، منذ ثورة ٢٣ يوليو إلى ثورة 30 يونيو.
ولا يسع أى منصف، يدقق الحقائق ويتفحص الرؤى فى تجربة الأستاذ، إلا أن يستلهم درس التاريخ وعبقرية الإنسان الكامنة فيها، ويدعو بإخلاص إلى الحفاظ على روحها، لتظل حية وماثلة أمام أجيال لم تعشها، بما يلزمه ذلك من مشروع وعمل مؤسسى قد يكون شاقاً لكنه واجب مطلوب لتخليد التجربة ووضعها فى مكانة تاريخية تليق بها وباسم الأستاذ.. وكفانا ما فات من تجارب كبرى ضائعة وأساطير راحلة، لا نستدعى ذكرها إلا فى المواسم كأنها طيور مهاجرة تمر تحت سمائنا فى الموعد نفسه من كل عام، فهل هذا قدر الأساطير فى بلادنا! فى الفيلم الذى أعدته أسرة الأستاذ عن مسيرة حياته وأذيع بالحفل، تحدث نجله حسن هيكل عن لحظة نادرة فى حياة والده، لم يسبق على حد علمى أن ذكرها الجورنالجى أو غيره.. هى لحظة تساقط دموعه فور سماعه نبأ وصول الرئيس الأسبق أنور السادات مطار بن جوريون فى الأراضى المحتلة يوم 19 نوفمبر 1977 وصوت المذيع يقول إن سلاح الجو الإسرائيلى يؤدى دوره فى تأمين طائرة الرئيس المصرى.. يشهد كثيرون ممن تم حبسهم بسجن طرة، رفقة الأستاذ هيكل فى اعتقالات سبتمبر 1981، دخوله فى نوبة بكاء مفاجئة فور سماعه نبأ اغتيال السادات، لدرجة أن بعض مَن يقدّرون الأستاذ خشوا عليه، فى لحظات انفلات الأعصاب، من هجوم زملائه المعتقلين الغاضبين من «السادات».
بين دموع الحزن على الرئيس الذى أردته رصاصات الإرهابيين فوق المنصة، ودموع الحسرة على احتفاء العدو بانقلاب السياسة على السلاح فى زيارة القدس، يبقى الجانب الإنسانى من حياة الأستاذ، الذى ترفع كثيراً عن ذكره، جديراً ومغرياً بالبحث والتأمل، حتى تكتمل صورة هذه الأسطورة الحية بما يليق بقدرها وإنسانيتها.
حضور الحفل شكّل طيفاً متنوعاً من المنتمين لمختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية، لبوا دعوة كريمة من أسرة الأستاذ ومؤسسة هيكل للصحافة العربية، واجتمعوا على محبته كما لم يجتمعوا من قبل، بدءاً من الرئيس السابق المستشار الجليل عدلى منصور ومسئولين آخرين سابقين وحاليين، مروراً بطبقة رفيعة المستوى من الكتاب والصحفيين والأكاديميين والأدباء والإعلاميين، مصريين وعرباً، من أجيال مختلفة، وانتهاء بالشباب الذين أضفوا جواً من البهجة عندما احتضنوا اثنين من زملائهم الفائزين هذا العام بجائزة هيكل للصحافة العربية.
بضع خطوات كانت تفصلنى عن مقعد السيد حسن هيكل، وقبل أن يستقر فى مكانه بالصف قبل الأخير، لفت نظرى حيويته وحركته الدؤوبة قبل بدء الحفل، يتابع كل صغيرة وكبيرة، مع حُسن استقباله هو وإخوته الدكتور على ورجل الأعمال أحمد هيكل لضيوف الحفل.. ظل أبناء الأستاذ وزوجته وحفيدته متأهبين وممتنين، كأنهم فى عُرس، وفى اللحظة التى أُعلن فيها عن بدء الحفل، ذابوا وسط الحاضرين يغمرهم شعور بالرضا وأنهم أدوا ما عليهم من واجب التنظيم والاستقبال، ويبقى الأستاذ والاحتفاء به ملكاً للحاضرين والغائبين المتابعين.
مرت دقائق قليلة من الحفل، ثم أطلت محملة بذكريات العمر وسنواتٍ سمانٍ عاشتها معه.. هى الحبيبة والرفيقة والزوجة وشريكة الحلم والمشوار.. طلتها الواثقة الفرحة منحت المحتفين بالأستاذ فرصة لإعادة اكتشاف هذه السيدة العظيمة.. هدايت تيمور.. وقد آثرت أن يتم تعريفها فى الاحتفالية بـ«هدايت هيكل» عرفاناً وامتناناً لحب العمر، وبعد كلمة قصيرة بليغة ألقتها ببساطة مدهشة، تأكد للحاضرين أن اختيار كل منهما للآخر لم يكن ضربة عشواء أو مجرد «قسمة ونصيب»، بل حالة من التكامل الروحى تزداد عمقاً وبريقاً بمرور الأيام، ولا ينال منها الموت، مهما كان الفقد مؤلماً.
«تصبحوا على خير» بهذه التحية المصرية الخالصة، كان يحلو للأستاذ أن يختم حلقاته التليفزيونية بقناة الجزيرة.. يرددها بابتسامة تكسو وجهه وتغطى تجاعيده، فتمنح المشاهد قدراً من الود، قد يخفف عنه وطأة الحمول التى داهمته وهو يتابع حديث الحقائق الصادمة والمعلومات الغزيرة والوثائق التى لا تكذب.
عندما أطل الأستاذ بهذه التحية على حفل المئوية، فى مشهد ختامى لمسيرة حياته، سرت مسحة شجن نبيلة بين الحاضرين.. لحظتها، هزتنى نهنهة ودموع رجل مسن، كان يجلس بجانبى، علمت فيما بعد أنه السيد (يحيى هيكل) أحد أقارب الأستاذ.. ثم سمعت أكثر من شخص يتمتم فى همس وصدق: «وأنت من أهله يا أستاذ».