د. محمد ناجح أبوشوشة.. نسيج فريد
فقدت كلية التربية بجامعة سوهاج وفقدت مصر واحداً من خيرة أبنائها، أدباً وخلقاً وعلماً ووطنية، هو الدكتور محمد ناجح محمد محمد أبوشوشة، المراغى مولداً (بنى هلال)، والطهطاوى إقامة، والشافعى مذهباً، ومدرس أصول التربية بالكلية، والعميد السابق لكلية التربية بالجامعة الخليجية بالبحرين، والذى أشرف وناقش أكثر من 200 رسالة علمية، وشارك فى عشرات الندوات بمصر وخارجها، وتوفى الجمعة 1-9-2023م عن 53 سنة.
كان -رحمه الله- بين تلامذته ومحبيه كالضَوء اللامع، والشمسِ المشرقة، والنبتِ النضر، فقد برز بأخلاقه ولينهِ وأريحيتهِ، وأقر له الجميعُ بالعلم والكرم والفضل، لأنه بنى عقولاً، وصحح منهجاً، ونشر معارف، وعمَّر أرضاً، ووسع ضيقاً، وأغاث إنساناً، وأطعم جائعاً، وأنار طريقاً، وكان غيوراً على دينه ووطنه وطلابه والبحث العلمى، وكان أزهرى المنهج والهوى، ترى ذلك فى اعتداله ووسطيته وإفتائه بالمختار وتمذهبه وإجلاله للعلم وأهله وتقديره للتخصص.
لقد تعرفتُ على الراحل فى مجلس الأستاذ الدكتور مصطفى رجب، وهو أستاذه الأكبر، الذى رثاه قائلاً: (كان -رحمه الله- مثالاً ومثلاً أعلى فى كل ما يأتى وما يدع).
لقد عرفت وعرف الجميعُ الفقيدَ بالأريحيات الصادقة، والأخلاقِ الآثرة، والنبلِ الأصيل، والذوقِ السليم، والبأسِ الصادق، وأما تصرفاتُه ومواقفه -فى الكلية وخارجها- فتنم عن اتزانٍ وحصافة، وفضلٍ وقدوة، وانطواءٍ محتشم، وتدينٍ حقيقى، غير منقوص ولا مغشوش ولا متطرف، وكان يقول: (مش مهم يكون فى جيبك مصحف، المهم تكون فى أخلاقك آية)، وكان يكره العجب والشهرة والتلاعب بالعلم وتسطيحه وتزييفه وتبديل المبادئ.
ولأجل هذا كان من الطبيعى أن نجد حزن طلابه والمتخرجين فى الكلية عليه حزناً صادقاً، فهذا الطالب يتحدث عن علمه، وهذه الأستاذة تتحدث عن أخلاقه، وهذه الطالبة تتحدث عن كرمه، وكل هذه العواطف المشتركة، والمحبة الجارفة، لم تنشأ من فراغ، بل لها أسبابها الظاهرة، ومسبباتها الباطنة، التى رأسها عوامل التنوير والربانية والصلاح، وامتزاج أخلاقِه بأنوار النبوة، وحب الأولياء والصالحين، وامتلاء خاطره بالمعالى، وخلو قلبه من الحقد والعجب والدسائس والكبر والمكر.
لقد كان الدكتور أبوشوشة نمطاً محترماً، وأستاذاً كبيراً، ذا قدر مرتفع، ونسيج فريد، وليس الخبر كالعِيان، فالفقيد -طيب الله مضجعه- منَّ الله عليه بغيوث التوفيق والمعونة، فأعطى المفاتيح العلمية لتلاميذه، وكان حلقة وصل بين جيلين فى الكلية، ولم يكن يأخذ العلم فهلوة ولا سُلَّماً لطلب الدنيا، ولا سُلَّماً للفت الأنظار، أو مجادلة العلماء، أو مماراة السفهاء، أو المباهاة فى المجالس، بل كانت محاضراته باباً للارتقاء بالطلاب، محاولاً إلحاق طلابه بركب التقدم والمعالى، وسط الظروف الصعبة التى يلاقيها الطلاب عموماً، وأهالى سوهاج خصوصاً، من ندرة الفرص، وضعف الإمكانيات، ومع ذلك كان الفقيد يبث فيهم الأمل والهمة والقوة والعطاء، ويقول لطلابه: (كونوا مقبلين على الحياة، ولا تهزمكم الصعاب، واعملوا على أن ترقوا بأنفسكم لكى تكونوا ناجحين)، فبث اليأس والإحباط بين الناس معصية تستوجب التوبة، كما يرى الفقيد، وهو محق فى ذلك.
كان الراحل مثقفاً دارساً للعلوم الشرعية والعربية، وخطيباً مفوهاً، وحافظاً للقرآن، وكان يرشد الطلاب لسوق العمل خارج أسوار الجامعة، وكان ناصحاً مرشداً، وحنوناً ليناً، ولطيفاً كريماً، وشديد التواضع، أقول «شديد التواضع»، لأن كثيراً من الطلاب يشكون من حالة الكبر والأنَفة والتعالى الموجودة عند بعض المعيدين وبعض أعضاء هيئة التدريس!!.
ثم الفقيد متعدى النفع؛ أعطى الطلاب من علمه نصيباً، وأعطى الفقراء من ماله جزءاً، ونال الباحثون من توجيهاته حظاً، وأخذت أسرته من بره قِسماً، وأما نصائحه الموزعة بين طلابه فلسوف يظل رنينها الآثر باقياً ممتداً، وهو لا يفعل كل ذلك من علٍ، بل بروح متواضعة، وكرم ضافٍ، وأريحية اجتماعية، لا يجوز أمامها قهر القلم على ترك الجولان فى ميدان الإعراب عن شمائل (ريحانة الكلية)، كما يطلقون عليه.
وعطفاً على ما سبق أبعث بثلاث رسائل:
الأولى: إلى كلية التربية، راجياً عمل تأبين لائق بالفقيد الكريم.
الثانية: إلى طهطا، بلد العلم والعلماء، راجياً إقامة احتفاء لائق بابنها الفقيد.
الثالثة: إلى باحث مجتهد ينهض لدراسة الراحل وفكره وآرائه فى رسالة علمية.
وفاته:
وبعد أن أدى الفقيد حق الله، وحق أسرته، وحق تلامذته، أخبر زوجته أنه يريد توديع والدته، والتصدق من ماله، ثم قرأ جزءاً من القرآن، وبعدها نطق الشهادتين، وفاضت رُوحه إلى بارئها، رحل الجسد وبقى الفقيد فى القلوب.
لئن رحلتْ عن سفحِ نُعمان عيسُه... فقد نزلتْ فى حى قلبى خيامُهُ
وحين نعاه الناعى كادت النفس أن تفيض عليه، وغشى القلوبَ حزن أسود كئيب، من هول الرزء، وفداحةِ المصاب، وتوشحت طهطا بالسواد، وكانت جنازتُه مشهودة مهيبة، وصلى الناس عليه مرتين، فى سوهاجَ وطهطا، وفى موكب وداعه ارتفع نشيج الباكين من المودعين، فى مأتم غَصَّ بآلاف المشيعين عن حسرةٍ كاوية، وفجيعةٍ كارثة، وترامت الجموع الغفيرة فى شوارع طهطا، تسوقهم اللوعةُ الجارفة، والحزنُ الشديد، والتقديرُ الحار لعالم كبير، ورُسم موكبُ الوداع للراحل، لا تجد موضعاً خالياً لقدم، ومضى الركبُ بالفقيد إلى مثواه الأخير، وتزود الناس بآخر النظرات عليه، مات محمد ناجح أبوشوشة، وغاض النبع العذب، والنبت المزهر، وبوفاته خلت الديار السوهاجية من دوحةٍ وارفة الظلال، وانطفأت برحيله صفحةٌ مجيدة من صفحات العلم والمروءة والكرم، وسلامٌ عليه فى الخالدين.