خمس خطوات للجم الشائعات

لا يكاد يمر يوم من دون أن نرصد شائعة أو أكثر تسري كما النار في الهشيم في البيئة المعلوماتية المصرية، وفي أغلب الأحيان، فإن تلك الشائعات تجد من يصدقها، ومن يبني عليها الافتراضات، بل ويطالب باتخاذ إجراءات حيالها.

يذكرنا هذا بما سبق أن حذر منه المفكر الفرنسي جان بودريار، الذي قال إن الطريقة التي يعمل بها الوسط الاتصالي العالمي تهدد بنشوء ما وصفه بـ "الواقع الفائق"، وهو الواقع الذي تضحى الأكاذيب فيه "حقائق"، يتصرف الناس ومعهم المؤسسات على أساسها.

قد يؤدي تفاقم ظاهرة الشائعات إلى ظهور واقع مُختلق بالكامل، وهذا الواقع سيؤطر الممارسات الفردية والعامة، وسيقود إلى اتخاذ قرارات خاطئة، وسيترتب على ذلك عواقب وخيمة.لذلك، فإن ما فعله مركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء، حين أرسى آلية لمواجهة الشائعات في العام 2014، كان مهما وضرورياً في آن، ورغم أن ملاحقة الشائعات، ومعظمها يرد عبر أقنية "التواصل الاجتماعي"، ستظل عملية صعبة، فإن تركها من دون معالجة سيسبب أخطاراً أكبر من قدرتنا على الاحتمال.

يقول مركز معلومات مجلس الوزراء، في جردة سنوية لانتشار الشائعات، إن هذا الانتشار اتخذ منحى متصاعداً على الدوام منذ العام 2014، حين سجل معدل 1.4%، قبل أن يتصاعد هذا المعدل باطراد على مدى السنوات الثماني الماضية، ليبلغ 20.5% بنهاية العام الماضي 2022.

ويوضح أيضاً أن النسبة الأكبر من تلك الشائعات تركزت على القطاع الاقتصادي والتمويني والخدمي، فضلاً بالطبع عن بعض الشائعات التي استهدفت الأوضاع السياسية والحقوقية.والشاهد أن قضية الشائعات، أو الأخبار الزائفة Fake News، ليست ظاهرة محلية، تتفاعل في المجتمع المصري وتؤثر فيه وحده، لكنها ظاهرة عالمية بامتياز، بعدما ضربت مجتمعات أكثر تقدماً وتنظيماً.بسبب عوامل اختلاق الشائعة وطبيعة المسار الذي تتخذه لتحقيق الانتشار، تبدو الجهود المبذولة لمواجهتها صعبة ومعقدة، ومع ذلك، فإننا لا نمتلك ترف تجاهلها أو التغاضي عن التصدي لها.لقد تجسد الأثر الحاسم للشائعة في ظل أزمة "كوفيد- 19" على الصعيدين المحلي والعالمي، حيث ضربت الشائعات المتعلقة بالفيروس، واللقاحات، وسبل الوقاية والمواجهة، الوسط الاتصالي المحلي والإقليمي والعالمي بشدة، وفي فورة انتشارها، تسببت أحياناً في وقوع ضحايا بأكثر مما تسبب فيه الفيروس نفسه، كما حدث في إيران على سبيل المثال، حين تسببت شائعة عن تناول الكحول لمقاومة الفيروس في وفاة أكثر من خمسين مواطناً.وبسبب استفحال تلك الظاهرة، راح كثيرون يبحثون في السبل الكفيلة بالحد منها وتطويق آثارها الضارة، وهنا تفتقت أذهان البعض عن ضرورة سن قانون رادع يتضمن عقوبات مغلظة لمواجهة هذا الخطر.لدينا تشريعات عقابية تكفي وتزيد لمواجهة الشائعات والأخبار المضللة بشكل حاد وصارم، سواء كان ذلك عبر مواد دستورية أو قوانين أو لوائح.وللأسف الشديد، فإن سن المزيد من القوانين العقابية في هذا الإطار لن يؤدي إلى الحد من الشائعات بقدر ما سيولد مخاطر لا تقل فداحة على حرية الرأي والتعبير وعمل الصحافة والإعلام.وثمة خمس خطوات ضرورية لتحجيم أثر الأخبار الزائفة ولجم الشائعات واحتواء مخاطرها لأقصى درجة ممكنة؛ وهي خطوات لا تتضمن سن قوانين عقابية، لكنها تحتاج إرادة وعملاً مدروساً مستديماً، لكي تظهر نتائجها على المديين المتوسط والبعيد.

أولى هذه الخطوات يتمثل في علاج الحالة المعلوماتية المصرية، وتحويلها إلى حالة معلوماتية أكثر كفاءة وشفافية، عبر صدور قانون الحق في تداول المعلومات، الذي ينص عليه الدستور في المادة 68؛ وهو ليس من قوانين الردع والتقييد، ولكنه من قوانين الإتاحة.

ومن حسن الحظ أن "الحوار الوطني" الذي تجري مداولاته حالياً، وتحظى بعض توصياته بتفعيل من قبل القيادة السياسية، ناقش هذه الخطوة بالذات بتمعن وتركيز شديد، وقد خلصت المناقشات التي دارت بصددها إلى ضرورة الإسراع بإصدار قانون معلومات كفؤ وشفاف.

عندما تتوافر المعلومات الدقيقة، استناداً إلى حق دستوري وقانوني، سيقل الميل إلى الاختلاق والتزوير، وستدحض الأخبار الصحيحة تلك الزائفة وتبعدها عن مجال التأثير.أما ثانية هذه الخطوات فتتصل بتوفير برامج تدريب جادة للعاملين في مهنة الصحافة والإعلام، وبفضل هذه البرامج، ستتم ترقية مهارات الصحفيين فيما يتعلق بالتعاطي مع الإفادات الواردة من وسائط "التواصل الاجتماعي".

وثالثة هذه الخطوات تتعلق بضرورة إصدار أدلة مهنية لتنظيم التعامل مع المعطيات المتوافرة في "السوشيال ميديا"، وتوضيح طرق استخلاص الحقائق منها في حال كانت موجودة.أما الخطوة الرابعة فتتمثل في جهود "التربية الإعلامية"، وتوعية الجمهور بأساليب تلقي المادة الإخبارية، وفصل الغث عن السمين فيها.

لكن كل هذه الخطوات لن تؤتي ثمارها من دون خطوة خامسة ضرورية تتجسد في تطوير الاستراتيجية الاتصالية التي تتبعها المؤسسات الرسمية، وضمن تلك الاستراتيجية يجب أن تُرقى قدرات العاملين في الوزرات والهيئات على التعامل مع وسائل الإعلام وبيئة "التواصل الاجتماعي"، وهو أمر يستلزم نهجاً منفتحاً قائماً على التواصل وبث الحقائق باطراد، مهما كانت مُزعجة أو مُقلقة.