لماذا أصبح الساحل الشمالي شريراً؟
بات وصف «الساحل الشرير» جزءاً من ثقافة قطاعات واسعة من المصريين وخطابهم، حتى إنه يندر جداً أن تجد أحداً لا يدرك هذا الوصف أو يستخدمه بانتظام، خصوصاً خلال شهور الصيف، التى ترتفع خلالها درجات الحرارة، ومعها فورات الكلام.
لا يستهدف هذا المقال مناقشة فكرة ما إذا كان الساحل الشمالى شريراً أم غير ذلك، ولا يريد أيضاً أن يحبّذ هذا الوصف أو ينتقده، ولكنه ببساطة يحاول معرفة الأسباب التى أدّت إلى نحت هذا المصطلح، ثم ذيوعه، وتكرّسه كحقيقة لا تجد من يدحضها غالباً.
أول هذه الأسباب يمكن أن يكون متعلقاً بروعة المكان، ولطف جوه، وسحر أجوائه، وجودة الحياة به، خصوصاً فى شهرى القيظ الشديد (يوليو وأغسطس)، قياساً بما تكون عليه معظم الأماكن فى مصر فى تلك الأثناء؛ ذلك أن قطاعاً من الجمهور لا يألف التميّز، عوضاً عن احتمال الاكتمال، وهذا القطاع تحديداً قد يصم «الجميل» وينتقده، كطريقة للتكيُّف مع «السيئ» أو تقبّل «العادى».
وثانى هذه الأسباب قد يتصل بنوعية رواد بعض مناطق الساحل الشمالى «الشرير حالياً»، الذين يجب أن يكونوا من طبقة اجتماعية ذات قدرة مادية معينة، ليمكنهم تملك وحدات سكنية فى هذا المكان أو الإقامة فيه، فضلاً عن مطاوعتهم المفترضة لأنماط العيش فيه، وهى أنماط تخالف غالباً المزاج المحافظ السائد فى معظم بقاع البلاد.
واتصالاً بهذا السبب، سيبرز أيضاً السبب الثالث الذى يتجسّد فى إثارة نوع من «الحقد الطبقى» أو التركيز على تفاوتات مادية واجتماعية، ترهق عشرات الملايين من الذين يعانون من محدودية الدخل، وغلاء الأسعار، والارتفاعات المطردة فى معدلات التضخم.
لكن كل هذه الأسباب مجتمعة لن تكون كافية وحدها لتفسير «الشر» الذى التصق بتعريف المكان، وبات أحد معالمه الثقافية، وأوصافه المستقرة فى الذهن الجمعى، وهو الأمر الذى سيسوغه السبب الرابع، وسيُجلى أبعاده.
يكمن السبب الرابع والأهم والأكثر قدرة على التفسير، فى عالم وسائل «التواصل الاجتماعى»، الذى قد يكون هو المتحدث الأوحد عن «الساحل الشرير» بتفاصيله الدقيقة، والناقل الحصرى لأخباره وحكاياته وصوره، والمُجسّد الأكثر شمولاً وإيضاحاً لمدى تباينه مع أنماط العيش السائدة فى مناطق البلاد المختلفة.
لمارك زوكربيرج، مؤسس «ميتا»، ومبدع «فيس بوك»، ورجل «التواصل الاجتماعى» المُهيمن، ثلاث مقولات رئيسية تشرح مفهومه عن هذه الوسائط.
وفى أولى تلك المقولات يرى أنها موجودة لخلق «الألفة والتسرية»، وفى ثانيتها يعتقد أنها تبشّر بـ«انتهاء عهد الخصوصية»، وفى ثالثتها يفسّر رواجها بأن «الناس لديهم هذه الرغبة للتعبير عمن هم، وأعتقد أن هذا الأمر كان دائماً موجوداً».
يريد الناس، كما يقرر زوكربيرج، أن يعبّروا عن أنفسهم، وفى تفسير ذلك أنهم يودون أحياناً أن يشعروا شعور «الصفوة»، وأن يشاركوا فى محافل «حصرية ومُختارة»، تمنحهم إحساس النخبة والاصطفاء، وتنأى بهم عن شعور الامتزاج مع العابرين والعوام.
يريد قطاع كبير من رواد «السوشيال ميديا» و«الساحل الشمالى» أن يخبرونا أنهم سعداء ومرتاحون ومرفّهون وغارقون فى المتعة والثراء فى كثير من الأحيان، وأنهم وصلوا إلى ذرى هذه المعانى، واستطاعوا أن يسجّلوا حضورهم هناك، قبل أن يبعثوا إلينا بصورهم وحكاياتهم، لكى ندرك إلى أى قدر باتوا «مُختارين» و«مُصطفين وليسوا مصطافين».
وفى طريقهم إلى إدراك هذا الشعور، فإنهم يشاركوننا «الألفة والتسرية»، ويقايضون بـ«خصوصيتهم»، وهو ثمن وجدوه بخساً حين قارنوه بالعائد الكبير المُنتظر؛ أى الشعور بالرضا لأنهم مميزون، ويعيشون طقساً يحسدهم كثيرون عليه، ولا يجدون لمعاينته سبيلاً.
سيمكن أن تجد الأدلة على ذلك الطرح واضحة فى كتابة أحد «المُصطفين» شاكياً من غلاء «جنونى» فى الأسعار، لم يمنعه من الشراء، أو وجود أحدهم فى حفل دفع الآلاف ليدخله، ليس للاستمتاع بأداء «المُغنى»، ولكن لتصويره، وتصوير نفسه حاضراً، قبل أن يبث الفيديو على حساباته فى «السوشيال ميديا»، أو فى تصوير أحدهم وصلة رقص تؤديها راقصة شبه عارية، قبل أن يتندّر عليها، وربما ينتقدها، من دون أن ينسى أن يسجل حضوره فى المكان.
لا تكتسب اللغة دلالتها إلا من خلال المنظور الثقافى لمتداوليها، ووصف الشرير اللصيق ببعض مناطق الساحل الشمالى الآن ليس وصفاً مجرداً بقدر ما هو اصطلاح مجازى، يستهدف تكريس «عظمة المكان وعظمة القادرين على الوصول إليه والبقاء فيه»، وهو أمر قد يبدو، حتى الآن، مُسلياً ولطيفاً، لكن عواقب كثيرة ستنجم عنه لاحقاً، وفى ذروتها، قد تأخذ مفهوم الشر اللصيق به إلى معناه المباشر والمجرد.