الحرب على المكارثية الثقافية العربية

فى الثامن عشر من فبراير الحالى أصدرت مجموعة من المثقفين العرب، يربو عددها على المائتين، بياناً بعنوان «لا للمكارثية الثقافية العربية»، وبمجرد نشره على موقع «ثقافة عربية حرة» تجاوز عددهم فى أيام قليلة رقم الثلاثمائة، وقد أدان البيان بكل شدة وعلى نحو مطلق ممارسات المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التى تمثلت «فى اختلاق مفضوح لتهم أدت إلى التحقيق مع الأستاذة الدكتورة نيفين مسعد، المديرة القديرة لمعهد البحوث والدراسات العربية التابع للمنظمة ومساءلتها عن هذه التهم المختلقة ثم عزلها عن وظيفتها وتخفيض درجتها الوظيفية فى أول سابقة من نوعها فى تاريخ الجامعة العربية التى تُتم فى هذه السنة سبعين عاماً من عمرها، مع العلم بأن إدارة المنظمة قد وقفت ضد تعيينها مديرة للمعهد منذ البداية، مما يؤكد شخصنة الخصومة»، وأعرب البيان عن أسفه لكون معظم التهم التى وُجهت للدكتورة نيفين مسعد ذات طابع فكرى وتعود إلى عدة سنوات قبل توليها مسئولية إدارة المعهد، مما يعنى أن ثمة تفتيشاً قد جرى فى عقلها المكتوب بحسب وصف البيان على نحو يدين كل من شارك فى هذا المخطط بالمكارثية الثقافية وازدراء القانون. كان مدير المنظمة المشار إليه قد تصور أن صمت الدكتورة نيفين مسعد بحكم اضطرارها إلى عدم تقديم استقالتها حتى لا يسقط حقها فى مقاضاته سوف يقيم حاجزاً من السرية والكتمان حول ما جنته يداه، لكن الإجراءات العلنية للتقاضى واقتناع الحكومة المصرية، ممثلة فى شخص الوزير المحترم منير فخرى عبدالنور الذى يمثل مصر بحكم منصبه فى المجلس الاقتصادى والاجتماعى لجامعة الدول العربية بعدالة القضية، قد أدى إلى معرفة تفاصيل الموضوع، وبالتالى فإن مجموعة المثقفين التى حارت طويلاً فيما جرى قد سارعت إلى الإلقاء بثقلها فى أتون المعركة، ومما يدعو إلى الفخر القيمة الرفيعة للأسماء التى وقّعت على البيان والتى تتزايد يوماً بعد يوم من شتى البلدان العربية، ولا أريد أن أخصص أسماء بعينها، ويستطيع القارئ الكريم على أى حال أن يطلع على القائمة الكاملة للأسماء على موقع «ثقافة عربية حرة»، لكنى مع ذلك لا أملك إلا أن أشير إلى أن عدداً يُعتد به من هذه الأسماء هم من خريجى المعهد على مدار السنين الذين يحتلون الآن أرفع المناصب الأكاديمية والسياسية فى بلدانهم بما يؤكد أهمية رسالة المعهد وخطورة المحاولات الجارية الآن على قدم وساق لهدمه، ومنذ تأسيس المعهد فى ١٩٥٢ بقرار من مجلس جامعة الدول العربية كان الهدف منه هو الإعداد العلمى لأجيال من الأكاديميين العرب فى مجالات الدراسات الإنسانية العربية فى شتى حقول المعرفة العلمية فضلاً عن إعداد البحوث العلمية فى القضايا العربية المهمة، وفى أوقات الوفرة المالية كان المعهد يقدم منحاً دراسية لطلابه، وعندما بدأت أيام الشح المالى اضطر المعهد إلى تحميل دارسيه برسوم دراسية غير أنها ظلت شديدة الرمزية، ناهيك عن مراعاة المعهد للظروف الموضوعية الخاصة لطلابه، سواء على الصعيد الشخصى أو الوطنى، بحيث إن أبوابه لم تُغلق يوماً أمام طالب علم بسبب عسره المالى. ويستحق ما جرى فى اجتماعات المجلس الاقتصادى والاجتماعى لجامعة الدول العربية فى المدة من ١٥ إلى ١٩ فبراير وقفة خاصة لإعطاء كل ذى حق حقه، فبعد ما أشرت إليه من اقتناع الوزير منير فخرى عبدالنور بعدالة القضية وطابعها الوطنى أصدر توجيهاته لمساعده القدير الأستاذ سعيد عبدالله، وكيل أول الوزارة، بطرح القضية على المجلس، وكان أداؤه مصدر فخر واعتزاز لأى مصرى، فقد أجاد طرح القضية لأنه آمن بها وقاوم ضغوطاً مستميتة من دولتين تحفظتا على طرح الموضوع وخرج فى النهاية بقرار وافقت عليه تسع عشرة دولة يُلزم مدير المنظمة بوقف إجراءات تعيين مدير جديد للمعهد إلى حين الفصل فى الخصومة القضائية بينه وبين الدكتورة نيفين مسعد، وهو قرار تتمثل أهميته الفائقة فى أنه يعنى أن ما اتخذه المدير مخالف للقانون، وتبقى المحكمة الإدارية لجامعة الدول العربية صاحبة القول الفصل فى الموضوع، وكان صاحبنا يريد أن يستبق القضاء بإجراء من شأنه أن ينشئ وضعاً مربكاً ومعقداً إذا حكم القضاء ببطلان إجراءاته. هكذا بدأت الضربة المضادة ضد المكارثية الثقافية وسوف تتوالى الضربات إن شاء الله، خاصة وقد ارتكب المدير نفسه خطأً آخر عندما استبق قرار المجلس التنفيذى للمنظمة باختيار مدير جديد لإدارة التربية بالمنظمة بتعيين أحد المتقدمين للوظيفة فى الإدارة المذكورة باختصاصات مدير الإدارة ومخصصاته المالية حتى يعطيه أولوية فى التعيين باعتباره من العاملين بالمنظمة، ومن سوء حظه أن هذا الإجراء الذى اتخذه يضر ضرراً بالغاً بفرص المرشح المصرى لهذا المنصب رغم سيرته الذاتية التى لا تقارن بمن عيّنه المدير، ومن ناحية أخرى فقد شجعت التحركات السابقة لجماعة المثقفين والمنظمات العربية الحقوقية والأكاديمية والبحثية عدداً من العاملين بمقر المنظمة فى تونس على الانضمام إليهم وتزويدهم بحقائق خطيرة حول تجاوزات سوف توضع يوماً قريباً أمام الجهات الرقابية المعنية فى جامعة الدول العربية، وإننى لأناشد سعادة سفير دولة الكويت صاحبة الأيادى البيضاء على الثقافة العربية أن يرفع هذه الحقائق إلى الجهات المعنية فى دولته حتى تبادر بيدها لا بيد عمرو إلى تصحيح المسار، إذ يتطلع المثقفون العرب إلى أن يروا على رأس المنظمة المسئولة عن الثقافة العربية مثقفاً كويتياً يعكس الوجه الحقيقى المضىء لدولة الكويت صاحبة الأيادى البيضاء على الثقافة العربية.