الساحل الشمالى أسلوب حياة
قبل أكثر من 10 سنوات شاركت مع اللواء "مجدى دياب" فى الجمعية العربية لخدمة المناطق المضارة من الألغام، حيت قُدرت 22 ٪ من مساحة مصر مزروعة بالألغام.. فى مقدمتها "العلمين".
ثم حدثت المعجزة ، تم تطهير هذه البقعة الغالية من أرض مصر من الألغام، وإرتفعت الأبراج والفنادق تعانق سماءها ، وأصبحت قبلة السياحة فى الساحل الشمالى ودرة التاج لمنتجعات "هاسيندا ، مراسي ، مارينا .. إلخ " .. وسط صدمة وذهول المتابعين من سرعة الإنجاز و ( مالقوش فى الساحل عيب تندروا على الأسعار) .. والحقيقة أن التنمية العمرانية المستدامة لابد أن تكن لها "فلسفة" خاصة بكل منطقة ، هذه الفلسفة مرتبطة بإمكانيات المكان جغرافيا و بطبيعة المجتمع الذى يحدد فى النهاية نوع "النشاط الإقتصادى" المطلوب.
فالتنمية المستدامة تعمل على ترسيخ مجموعة من القِيَم والمفاهيم التي تساهم في تطوير المجتمعات وتسعي لتحقيق الانتعاش الاقتصادي على نطاق واسع بشكل يتَّصِف بالقوة والاستدامة من الناحية الاجتماعية والبيئية بشرط تلبية احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المستقبلية على تلبية حاجاتها.
سأقدم مثالا لتبسيط الفكرة، مدينتى شرم الشيخ والغردقة تم تكوينها كمجتمع حاضن للشباب من الخرجين الجدد و توفير وحدات سكنية مناسبة لدخلهم وفرص عمل وتوطينهم فيها ( فى التعليم والطب والسياحة وكافة الأنشطة الإنسانية) ، لتصبح تلك المدن جاذبة للسياحة الخارجية بالأساس وتوفير كل الأنشطة الشاطئة التى يحتاجها الساحل الأجنبى على مدار العام.
وبحسب كتاب "فلسفة التنمية المستدامة» الذي صدر عن دار نشر بوف الفرنسية، للكاتب الفرنسي "فرانك برياج" فالمجتمعات التي تمر بأزمات اقتصادية يتحتم عليها أن تتبنى ركيزتان اثنتان: الأولى ترتبط بزيادة الإنتاج والثانية تختص بالاستثمار وفقًا لأهداف وقِيَم تنموية داعمة لكافة القطاعات.
لهذا أصبحت التنمية المستدامة واحدة من الفرضيات التي تتبنَّاها المجتمعات الكبيرة المعاصرة من أجل شراكة مستقبلية تفترض تغيير أنماط الحياة السائدة التي لا تزال تنتهجها الدول والشعوب.
من هنا كان تأسيس مدن صناعية مثل العاشر من رمضان والسادس من أكتوبر، مما جعل مصر تتحول من مجتمع زراعى يعتمد فى معظم إحتياجاته على الإستيراد إلى مجتمع يتجه نحو التصنيع.ومع التزايد السكانى ، إتجه الناس إلى السكن خارج العاصمة ( وهذا تغيير جذرى فى نمط الحياة) ، فصعدت كومبندز جديدة منها الرحاب ومدينتى و دريم غيرها من المجتمعات المنتشرة حولهم .. والتى يقال أنها "منتجعات الصفوة" و الحقيقة أنها أصبحت الآن كذلك لكنها بدأت بأسعار أقل من متر الأرض فى مصر الجديدة والمهندسين حتى قررت الشرائح العليا من الطبقة المتوسطة "قبل الأثرياء" الخروج من حدود العاصمة ليصبح فى مقدورهم السكن فى فيلات مستقلة.
هذا أيضا ما حدث فى الساحل الشمالى، فبدأ الزحف العمرانى يمتد من الأسكندرية إلى العجمى ومنها إلى قرى مراقيا ومارينا .. وكلما تعرضت قرية ساحلية الى غزو من الأسر التى تذهب إلى البلاج بحلل المحشي وتنزل البحر بالجلابية أو البوركينى .. قرر ملاكها الإنتقال إلى قرية أحدث مثل مراسي أو هاسيندا .. لم يصبح هدف الملاك هنا البحث عن شاطى أو شالية فسيح ، بل أصبح هدفهم العيش فى "نمط حياة" يألفونه.
أصبح الفيصل بين الساحل الطيب والساحل الشرير هو "غلاء الأسعار" ، لن تجد ملاك شاليهات الساحل الشرير متضررين من الأسعار لأنها تكفل لهم إبعاد المتطفلين من طبقات إجتماعية-ثقافية مختلفة .. يمكن أن تعتبرها مثل الجامعات الأمريكية و الألمانية والخاصة التى تكفل للطالب مستوى رفيع من العلم ووسط إجتماعى يشبهه .. عائلة هذا الطالب هم ملاك قرى الساحل الشرير كما تسمونه.
هذا النظام ليس غريبا عن العالم كله ، فنجوم الفن والسياسة والرياضة و المال والأعمال "كريمة المجتمع" لهم مجتمعات مغلقة عليهم تجنبهم متاعب الشهرة خاصة مع إنتشار الموبايلات بخاصية الكاميرات.نأتى إلى "العلمين الجديدة" والتى باعت الحكومة رمال أرضها للمطورين العقاريين لتوفر ما تحتاجة البلاد من بنية أساسية، وتسعير الفنادق يقدر أقل بكثير من فنادق باريس ولندن و دبى .. ( بالمناسبة غرف شرم الشيخ يتم تسعيرها بالدولار).
من حق هذا المستثمر أن يكسب شريطة أن يوفى مستوى راقى للضيف و "نمط حياة" مثالى .. بينما حضرتك مُصر أن تكون ضيفا على مكان أعلى من إمكانياتك تاركا كل القرى الممتدة على الأرض ألف كيلو متر، بدءاً من أقصى نقطة فى الشرق عند رفح المصرية، إلى أبعد نقطة فى الغرب عند السلوم على الحدود الليبية ( فهذا كله الساحل الشمالى) ، وتريد أن تزاحم من "دفع ثمن خلوته" فى مساحة حوالى 1 % من الساحل الشمالى !!.
فإذا توفر لك دخول هذه المساحة وأنت لا تملك ثمن رفاهيتها سوف تحمل معك حلة المحشي والبوركينى والكاسيت بصوته المزعج محاولا أن تفرض أبجديتك ونمط حياتك على من دفع الملايين ليعيش كما يشاء.هذا ليس عدلا : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) .. حتى فى السياحة الدينية هناك حج بمليون ونصف وحج قرعة .. لكنك قررت أن تناقش سعر زجاجة المياة المعدنية ونسيت مصاريف مدارس الأولاد !!.