نحو قانون أسرة متوازن.. حق الكد والسعاية

فى يوم الثلاثاء الموافق الخامس عشر من شهر فبراير 2022م، وخلال استقبال وزير الشئون الإسلامية والدعوة والإرشاد السعودى، دعا فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، إلى ضرورة إحياء فتوى «حق الكد والسعاية» من تراثنا الإسلامى؛ لحفظ حقوق المرأة العاملة التى بذلت جهداً فى تنمية ثروة زوجها، خاصة فى ظل المستجدات العصرية التى أوجبت على المرأة النزول إلى سوق العمل ومشاركة زوجها أعباء الحياة.

وأكد فضيلة الإمام الأكبر أن التراث الإسلامى غنى بمعالجات لقضايا شتى، إذا تأملناها سنقف على مدى غزارة وعمق هذا التراث، وحرص الشريعة الإسلامية على صون حقوق المرأة وكفالة كل ما من شأنه حفظ كرامتها. ورغم كونه مصطلحاً قديماً، لا نغالى إذا قلنا إنه ربما كانت هذه المرة الأولى التى يُثار فيها الحديث على الملأ عن هذا الحق، وبحيث يبدو سائغاً القول إن العقل الجمعى المصرى قد فوجئ بحديث شيخ الأزهر عن هذا الحق.

والواقع أن جذور «حق الكد والسعاية» تعود إلى حادثة وقعت فى التراث الإسلامى مرتبطة بامرأة تُدعى «حبيبة بنت زريق»، عاشت فى عهد الخليفة الثانى عمر بن الخطاب. وكانت «حبيبة» نسّاجة تخيط الملابس وتطرزها، فيما كان زوجها «عمرو بن الحارث» يتاجر بما تصنعه. فتمكن الزوجان من تكوين ثروة من النسج والتجارة.

لكن عندما توفى «عمرو بن الحارث» استولى أهله على أمواله كلها، متجاهلين حق «حبيبة» فيها، إذ كانت شريكة لزوجها فى تجارته. لكن حبيبة لم تسكت عن حقها، واحتكمت إلى الخليفة عمر بن الخطاب، الذى قضى بتقسيم المال إلى نصفين، نصف لحبيبة، باعتباره حقها والنصف الآخر يقسم على الورثة، ومن ضمنهم حبيبة أيضاً وفقاً للشرع، إذ يحق لبنت زريق أن تأخذ ربع ما تركه زوجها لكونها لم ترزق بأطفال منه.

ورغم قدم هذه الواقعة، ورغم أن المجتمع المصرى يعتبر من أقدم المجتمعات العربية التى عرفت عمل المرأة وخروجها إلى ميادين العمل، فإن تشريعات الأحوال الشخصية المصرية تخلو من النص على حق الكد والسعاية. على النقيض من ذلك، تعتبر دول المغرب العربى من أوائل الدول العربية المطبّقة لحق الكد والسعاية. بل إن الجمهورية التونسية قد وصلت إلى حد تخويل الزوجين الحق فى اختيار النظام المالى الذى يرغبان به، وذلك بمقتضى القانون عدد 91 لسنة 1998 المؤرخ فى 9 نوفمبر 1998 المتعلّق بنظام الاشتراك فى الأملاك بين الزوجين.

وكما هو واضح من عنوانه، فقد أقر هذا القانون نظاماً للاشتراك فى الملكية بين الزوجين، لتكريس التعاون بينهما فى تصريف شئون العائلة، وبحيث يكون للزوجين الحرية الكاملة فى اختيار النظام المالى الذى يرغبان به، وما إذا كان نظام انفصال الذمة المالية بين الزوجين أم نظام الذمة المالية المشتركة، فوفقاً للفصـل الأول من هذا القانون، يُحدّد المشرع التونسى المراد بنظام الاشتراك فى الأملاك بين الزوجين، بنصه على أن «نظام الاشتراك فى الأملاك هو نظام اختيارى يجوز للزوجين اختياره عند إبرام عقد الزواج أو بتاريخ لاحق، وهو يهدف إلى جعل عقار أو جملة من العقارات ملكاً مشتركاً بين الزوجين متى كانت من متعلقات العائلة».

وفى المملكة المغربية، وردت مدونة الأحوال الشخصية الملغية الصادرة سنة 1957م خلواً من النص على حق الكد والسعاية. ومع ذلك، قضت المحاكم المغربية فى الكثير من الدعاوى لصالح الزوجة بجزء من مال زوجها، سواء بعد وفاته أو بعد الطلاق، استناداً إلى هذا الحق. وقد كانت هذه الأحكام مقدّمة لتقنين هذا الحق صراحة بموجب نصوص تشريعية واضحة فى مدونة الأسرة السارية حالياً والصادرة سنة 2004م.

فوفقاً للمادة التاسعة والأربعين، الفقرات الأولى والثانية والثالثة من مدونة الأسرة الصادرة سنة 2004: «لكل واحد من الزوجين ذمة مالية مستقلة عن ذمة الآخر، غير أنه يجوز لهما فى إطار تدبير الأموال، التى ستكتسب أثناء قيام الزوجية، الاتفاق على استثمارها وتوزيعها. يضمن هذا الاتفاق فى وثيقة مستقلة عن عقد الزواج. يقوم العدلان بإشعار الطرفين عند زواجهما بالأحكام سالفة الذكر».

وهكذا، تجيز المادة 49 من مدونة الأسرة للزوجين توقيع اتفاقية تنظم ما سيجمعونه من أموال خلال فترة الزواج وتقسيمه بعد الانفصال أو بعد وفاة أحدهما. وتحدّد الفقرة الرابعة من المادة ذاتها الحكم القانونى واجب الاتباع فى حالة عدم وجود مثل هذا الاتفاق، بنصها على أنه «إذا لم يكن هناك اتفاق فيرجع للقواعد العامة للإثبات، مع مراعاة عمل كل واحد من الزوجين وما قدّمه من مجهودات وما تحمله من أعباء لتنمية أموال الأسرة».

وفى دولة الإمارات العربية المتحدة تنص المادة (62) الفقرة الأولى من القانون الاتحادى رقم (28) لسنة 2005 فى شأن الأحوال الشخصية على أن «المرأة الراشدة حرة فى التصرف فى أموالها، ولا يجوز للزوج التصرف فى أموالها دون رضاها، فلكل منهما ذمة مالية مستقلة. فإذا شارك أحدهما الآخر فى تنمية مال أو بناء مسكن ونحوه كان له الرجوع على الآخر بنصيبه فيه عند الطلاق أو الوفاة». وتعليقاً على هذا النص، ورد فى المذكرة الإيضاحية أن هذه المادة جاءت بنص جديد يقرّر حق كل من الزوجين فى الرجوع على الآخر عند الطلاق أو الوفاة، إذا ما شارك أحدهما الآخر فى تجارة أو بناء مسكن أو نحو ذلك، أخذاً من مذهب المالكية.

أما فى دولة قطر، فإن ثمة نصاً يقرر للزوجة الحق فى الرجوع على زوجها بما أسهمت به فى بناء مسكن الزوجية. فوفقاً للمادة السادسة والأربعين من قانون الأسرة، الصادر بالقانون رقم (22) لسنة 2006م، «الزوج ملزم بإعداد مسكن الزوجية، فإن أعدت الزوجة شيئاً منه كان ملكاً لها. وللزوجة الرجوع على زوجها بما أسهمت به فى بناء مسكن الزوجية، ولا يعتبر ذلك تبرعاً منها إلا بإقرار صريح. وللزوج الانتفاع بالجهاز المملوك للزوجة ما دامت الزوجية قائمة، فإن أتلفه متعمداً ضمن».

وإذا كانت عبارة هذا النص قد جاءت قاصرة على مسكن الزوجية، فإن دلالته يمكن أن تمتد -بطريق القياس- إلى غيره من الأملاك والأموال التى نشأت أو نمت أثناء رابطة الزوجية، متى أثبتت الزوجة مساهمتها فى تكوين هذه الأموال أو فى تنميتها.وسيراً على نهج التشريعات العربية سالفة الذكر، فالمأمول هو أن يتضمن مشروع قانون الأحوال الشخصية المصرى الذى يجرى إعداده حالياً تقنيناً لحق الكد والسعاية. وإلى أن يحدث هذا التطور التشريعى المأمول، فإن الأمل معقود فى الاجتهاد القضائى وأن يبادر قضاة مصر الأجلاء إلى إعمال وتفعيل الآراء الفقهية التى تخول للمرأة الحق فى نسبة من أموال الزوج، متى ثبت أن لها نصيباً فى تكوين ثروته أو فى تنمية هذه الثروة.

ولا شك أن ذلك أدعى إلى تحقيق موجبات ومقتضيات الدستور المصرى فى المادة العاشرة منه، بنصها على أن «الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية، وتحرص الدولة على تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها». حفظ الله الأسرة المصرية والعربية من كل مكروه وسوء، وأن يسود بين أفرادها الوئام والسلام والحب والسكن والسكينة.