سوريا الدولة تعود

أمينة خيرى

أمينة خيرى

كاتب صحفي

سوريا بين قمتى بغداد 2011 وجدة 2023 هى دعوة للعقلاء والحكماء فقط للتفكر والتدبر. وبعيداً عن حنجوريات ما كان ينبغى أن يكون وما كان لا يجب أن يحدث، ومن كان عليه أن يقاوم ومن كان عليه أن يمانع إلى آخر المنظومة المعروفة فى عرف العوالم التخيلية التى لا وجود لها على أرض الواقع، وربما على أرض الخيال، فإن الحضور السورى الرسمى اجتماعات الدورة الـ32 لمجلس جامعة الدول العربية فى جدة هو دعوة ودفعة ومناشدة تصل درجة الاستعطاف والاستجداء للتعقل، حتى فى صب خرسانة سقف الأحلام.مر العالم بالكثير من موجات الحركات التحررية والاستقلالية والتقدمية والوحدوية والإصلاحية والهوياتية والدينية والسياسية والخليط بين هذه وتلك على مدار عقود وقرون، منها ما نجح فى ظروف تاريخية واجتماعية معينة، ومنها ما أخفق بسبب أوضاع سياسية غير مواتية أو مقاومة استراتيجية غير معلنة. والعالم يتغير، والظروف تتحول، وما كان صالحاً للاستخدام بالأمس ربما لا يجدى اليوم، بل ربما يؤتى نتائج كارثية على الجميع.الحسابات فى تغير دائم، وتوازنات المصالح أبعد ما تكون عن الجمود أو الثبات. ومن لا يعى ذلك، ويصر على المضى قدماً دون تعقل، فهو انتحارى لا يكتفى بقتل نفسه، بل يقتل معه آخرين ربما لا يشاركونه الهدف مهما كان سامياً فى مخيلته أو مستحقاً بحسب تعريفات الكتب ومفردات المعاجم.معجم الواقع يقول إن سوريا الدولة غابت عن المحافل العربية الرسمية المشتركة منذ عام 2011. وبين 2011 و2023، جرت -كما يقولون- مياه كثيرة تحت الجسر. جرت مياه، وأريقت دماء، وتدخلت قوى خارجية، واستقوت عناصر داخلية، واستفحلت فوضى عارمة، وتوغلت مصالح عاتية، لكن الأهم من كل ذلك هو أن الأسئلة الأكثر شيوعاً من قبل غير المنتفعين من الأحداث الدامية على مدار سنوات الخراب والدمار كانت: من يقاتل من؟ ولماذا؟ ومن يقف ضد من ومن يدعم من؟ وكيف؟ ومن يدعم العنف والقتل؟ ولماذا؟ ومن يمول «الثورة» التى تحولت حرباً أهلية؟ ومن أى حسابات مصرفية؟ ومن سمح بماذا؟ ولماذا؟ وكيف دخل كل أولئك «المحاربين»؟ وكيف؟ ومن ينفق عليهم؟ وقائمة الأسئلة التى غابت عن «حنجوريى» المقاومة والجهاد والكفاح المسلح على جثامين الضحايا كثيرة وطويلة.طول السنوات الواقعة بين تعليق عضوية سوريا الدولة فى جامعة الدول العربية وعودتها، وهى 11 عاماً (ناقص خمسة أشهر) جديرة بالتأمل. غابت سوريا الدولة ثم عادت، فماذا تحقق على أرض الواقع؟!أترك الإجابة لمن زار سوريا خلال الأعوام الـ11 الماضية، وأعود إلى المشهد الحالى. السطور التالية ليست دفاعاً عن نظام، أو نيلاً من مطالب، أو تقليلاً من شأن أحلام، لكنها تفكير بالورقة والقلم فى محاولة للاستفادة.يقال إن شمشون الجبار، الذى كان يستمد قوته من شعره وقع ضحية احتيال من امرأة جميلة هى دليلة، التى انتهزت فرصة نومه فقصت شعره ظناً منها ومن قومها أنهم جردوه من قوته، ونظراً لقصر شعره وفقدانه قوته، تمكنوا من سجنه فى المعبد، لكن شعره طال مجدداً ما أعاد إليه قوته التى استخدمها هذه المرة فى هدم المعبد عليه وعلى أعدائه.شمشون فى العصر الحديث نموذج متكرر، سواء بحسن أو سوء نية. هناك من يعتقد أن قوته أبدية، وهناك من يستمد قوته من قوى خارجية لتحديد أهداف داخلية. وهناك كذلك من يقع ضحية عمليات نصب لذيل باسم الحرية واحتيال لطيف تحت راية الكرامة أو العدالة إلى آخر مفردات الأمنيات والمطالب. لكن فرقاً شاسعاً بين العمل على تحقيق مطلب «بالعقل» أو بالغشومية القاتلة. وحين تنال الغشومية من أرواح ومصائر ملايين الأبرياء من المدنيين فإنها تتطابق ومعايير الغباء والحماقة والسفه والطيش المميت. وسأترك جانباً النوايا الخبيثة والأغراض الدنيئة لأنها سمة الحروب الأهلية دائماً وأبداً.تعود سوريا الدولة اليوم إلى جامعة الدول العربية، وأرى أهمية العودة فى الرمز والمعنى والرسالة والدرس، وجميعها مستمر لن يتوقف عند حدود فعاليات قمة جدة. فلننظر إلى ردود فعل العودة فى العالم الغربى، ولدى ألد أعداء النظام السورى، وبين أولئك الذين شردتهم الحرب الأهلية على مدار ما يزيد على عقد، وفى أوساط اللاجئين السوريين فى أرجاء الأرض، وفى كواليس المتاجرين والمنتفعين بورقة اللجوء والهجرة بحسب مصالح وغايات وأهداف وليس بحسب مقاييس إنسانية ومعايير أممية.تعود سوريا اليوم، ومعها نتذكر أحداث «مؤتمر الأمة المصرية لدعم الثورة السورية» فى عام الغبرة. ولنتذكر وقائع هذا اليوم الأسود فى منتصف شهر يونيو عام 2013. هذا اليوم الأسود فى تاريخ مصر الذى شهد حضور الآلاف من قيادات وأنصار التيارات الإرهابية، وتلك الخالطة الدين بالسياسة بالمصالح على جثامين الضحايا. ويكفى أن قيادات داعشية أعلنت حينها شعورها بالأمان والاطمئنان عقب هذا «المؤتمر».عادت سوريا الدولة والعبرة والدرس والحكمة ما زالت تنتظر من يعتبر.