الزيادة السكانية ليست قدرا محتوما

لطالما كانت الصين هي الدولة الأولى التي تخطر على البال، عند الحديث عن أعداد السكان، وما تمثله من قوة ديموجرافية حاسمة الأثر، أو عبء قاس وقيد غليظ يُحّجم القدرات الوطنية ويُكبل التنمية.لقد ظلت الصين تحظى بتلك المكانة بالنظر إلى أنها تربعت لعقود طويلة على رأس قائمة الدول الأكثر سكاناً، لكن هذا الأمر يتغير الآن، بفعل تغيرات سياسية وديموجرافية جديدة، حملت بلداً آخر إلى هذه "المكانة".

ففي الأسبوع الماضي، كشفت بيانات صندوق الأمم المتحدة للسكان أن الهند تفوقت على الصين من حيث عدد السكان، لتتربع بدورها على رأس قائمة الدول الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم.

ووفق تلك البيانات، فقد بلغ تعداد الهند حالياً 1.428 مليار نسمة، في مقابل 1.425 مليار نسمة للصين، لتُزاح تلك الأخيرة عن مكانتها السابقة، وتضحى الأولى صاحبة السبق في هذا المضمار، الذي ما زال الخلاف ناشباً بشأن ما إذا كان نعمة أم نقمة.ثلاثة ملايين نسمة تمثل هذا الفارق، الذي غيّر ترتيب البلدين، لجهة عدد السكان، ورغم أن هذا الفارق يُعد ضئيلاً وغير مؤثر مقارنة بعدد السكان في البلدين الكبيرين، فإن له دلالة مُهمة؛ إذ إنه لم يتحقق اعتباطاً، وإنما من خلال عمل دؤوب وتخطيط محكم في أحد البلدين "المتنافسين" وإدارة عفوية لا مبالية في البلد الآخر.

يعطينا هذا الفارق، وما يتبعه من معان ودلالات أمثولة وأنموذج عمل لما يجب أن تنهض به البلدان من سياسات وتُرسي من تدابير للتعامل مع القضية السكانية.كما يشرح لنا أن العامل الديموجرافي ليس قدراً مُحتوماً كما الجغرافيا، لكنه عامل مرن يقبل التفاعل ويتأثر بالسياسة ويحتمل التغيير.

ويذكرنا هذا التغير اللافت، وما ينطوي عليه من دروس وعبر، بمشكلتنا السكانية، فرغم أن البعض يعتقد أن عدد سكان مصر ليس مشكلة في حد ذاته، وأن نسبة الزيادة السكانية المتسارعة لا تطرح علينا تحديات، وأن دولاً أخرى في العالم لديها عدد سكان أكبر بكثير، لكنها "تعرف كيف تستفيد من إمكانياتها السكانية"، فإن ذلك الطرح لا يحظى بالقدر اللازم من الحجج التي تدعمه.

وكما نعلم، فإن بعض الدول تستفيد من زيادة عدد سكانها، بينما تستفيد دول أخرى من السيطرة على معدلات ارتفاع ذلك العدد، وأن دولاً تجتهد لرفع معدلات الزيادة السكانية، بينما تجاهد دول أخرى لخفضها، وسيقودنا ذلك إلى حقيقة أن كل دولة لديها وضع سكاني محدد، وأنها تصوغ عقيدتها السكانية، وترسي سياساتها في هذا المجال، بناء على هذا الوضع المحدد، وتوخياً للأهداف القومية التي تسعى إلى تحقيقها.

لم يكن ما حققته الصين من سيطرة تبدو ناجحة على معدلات الزيادة السكانية بها سوى نتاج تخطيط وتدبير وعمل سياسي، وهو الأمر الذي مكنّها من تغيير سياساتها السكانية أكثر من مرة اتساقاً مع تشخيصها للتحدي السكاني، وسعياً لتكامل تلك السياسات مع السياسات القومية في المجالات كافة.تُعد الصين أهم دولة واجهت مشكلة الزيادة السكانية في العالم، لذلك، فقد سن الحزب الشيوعي قانون الطفل الواحد، عام 1979، وأتبعه بحزمة من الإجراءات والعقوبات، ضمن ما عُرف آنذاك بـ "سياسة تخطيط الأسرة".

في تلك السياسة تم إلزام المواطنين بإنجاب طفل واحد، مع فرض ضرائب تصل إلى 50% من الدخل، أو الطرد من الوظيفة، أو الحرمان من صور الدعم الأخرى، في حال تم إنجاب أكثر من طفل.وبحلول العام 2013، كانت الصين أحرزت نجاحاً باهراً في سياسة الحد من النمو السكاني، وبموازاة ذلك ارتفع دخل الصينيين، وتحسنت مستوياتهم الاجتماعية والثقافية، وخرج مئات الملايين من الفقر، وتعزز أداء الخدمات العامة، فبدأت الدولة في التخفيف من قيودها على الإنجاب.

وفي العام 2016، وجدت الدولة أن معدلات المواليد المنخفضة يمكن أن تؤثر في خطط التنمية، لأنها تزيد من أعداد المسنين، وتقلل من أعداد الشباب القادرين على العمل، فرفعت معدل الإنجاب المسموح به إلى طفلين، وأطلقت برامج توعية وحزم تحفيز على إنجاب الطفل الثاني.

ولمشكلة السكان جانب آخر غير الجانب الذي نعرفه، فثمة 82 دولة في العالم تعاني من تراجع المواليد بشكل لا يعوض الوفيات، ما يؤثر على قوة العمل الوطنية؛ كما هو حادث في كوريا الجنوبية، وروسيا، وألمانيا، واليابان، والدول الإسكندنافية.

ولكي تواجه تلك الدول هذه المشكلة عمدت إلى برامج وخطط وطنية، وتعديل للوائح لمنح إجازات رعاية أطفال للوالدين، حتى إن بلدية مدينة ميهيكالا الفنلندية قررت منح عشرة آلاف يورو لكل أسرة تنجب طفلاً جديداً.

يعطينا هذا مثلاً واضحاً على ما يجب أن تفعله دولة لمواجهة مشكلتها السكانية، سواء كانت تلك المشكلة تتعلق بزيادة الإنجاب أو تراجع معدلاته.وفي شهر مارس الماضي، أعلنت الحكومة المصرية عن تقديم ألف جنيه سنوياً لكل سيدة متزوجة لديها طفلان بحد أقصى، تستحق صرفها عند بلوغها 45 سنة، وهي سياسة تمثل خطوة في الطريق السليم، لكنها ليست كافية، ويجب تعزيزها.

تحتاج عملية إصلاح الأوضاع السكانية في مصر إلى المزيد من المبادرات والقرارات المؤثرة، التي تعزز سلوك الإحجام عن كثرة الإنجاب، وتردع المفرطين.