المرأة نصف المجتمع ونصف البرلمان

بدأت الحياة الإنسانية فى الأرض بآدم وحواء، عليهما السلام، دون وصاية أحدهما على الآخر، كما قال تعالى: «قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى» (طه: 123)، وقال تعالى: «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ» (البقرة: 36). ولا يُقال إن «حواء» خُلقت من ضلع «آدم» فتتبعه، فهذا كان فى عالم ما قبل الدنيا الذى لا تكليف فيه إلا من شجرة، كما قال تعالى: «وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ» (البقرة: 35). أما فى الدنيا فقد شاء الله أن يكون نسل الإنسانية، رجالاً ونساءً، من رحم المرأة، كما قال سبحانه: «هُوَ الَّذِى يُصَوِّرُكُمْ فِى الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (آل عمران: 6)، حتى الأنبياء والمرسلين وأولى العزم منهم (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، عليهم الصلاة والسلام)، خرجوا إلى الدنيا من رحم المرأة ونشأوا فى كنفها، بل إن التعريب وإعمار مكة، أم القرى، وما حولها لم ينطلق بمشيئة الله إلا على يدى السيدة «هاجر» عليها السلام، التى اصطحبها سيدنا «إبراهيم» مع رضيعها من فلسطين إلى مكة يوم أن كانت جرداء لا نبت فيها ولا ماء، حتى الكعبة لم يكن لها بناء مرفوع، وإن كان لها أثر بسبب طوفان «نوح» عليه السلام على أشهر المرويات، وعندما أراد سيدنا «إبراهيم» مغادرة مكة للعودة إلى الشام سألته السيدة «هاجر»: إلى من تتركنا يا خليل الله؟ فلما وجدته ساكتاً استفتحت عليه الجواب، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، فقالت: إذن اذهب فلن يضيعنا، فانطلق وهو يقول دعاءه الكريم: «رَّبَّنَا إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» (إبراهيم: 37). وأقامت السيدة «هاجر» عليها السلام، بمفردها، الحياة فى قلب أرض العرب من الرجال والنساء، وجعل الله معالمها الأولى شعائر دينية إلى قيام الساعة، حتى لا يُنكر فضل المرأة فى إقامة الحياة العامة طاغية، خاصة المتاجرين بالدين ممن نسأل صاحب أطول لحية فيهم، لماذا تسعى بين الصفا والمروة وتهرول بين الميلين الأخضرين إلا امتثالاً للسنة وتشبهاً وتخليداً لسيرة السيدة «هاجر» عليها السلام، كما نسأل صاحب أكبر عمامة وأعلى تاج منهم لماذا تخلع غطاء رأسك فى إحرامك بالسعى، إلا طاعة لله، الذى جعل فى ذلك مظهراً لتوقير السيدة «هاجر» عليها السلام، كما نسأل صاحب أعظم كرامة من الرجال وأكملهم ديناً أين كرامتك التى فاتت من كرامة السيدة هاجر بنبع ماء زمزم الباقية لخاطرها، وهل أغناك كمال دينك عن احتياجك للشرب من ماء زمزم. وإذا ثبت أن العروبة لم تكن لها قائمة إلا بفضل الله، ثم بسعى السيدة «هاجر»، عليها السلام، فهل يكون الوفاء لها هو التنكّر لحقوق النساء العامة كأهل النقيصة الذين قال الله عنهم: «وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» (الواقعة: 82). وقالت عنهم الحكمة التى قال عنها «السخاوى» إنها تشبه أن يكون من كلام بعض السلف: «اتق شر من أحسنت إليه»، وقال عنهم الشاعر معن بن أوس المزنى فى ابن أخيه: «أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رمانى وكم علمته نظم القوافى فلما قال قافية هجانى» إن المشاغبين لإنكار حق المرأة فى الحياة العامة يستندون إلى شبهات تدينهم، وتجعلها آية للمرأة ترفع بها رأسها أمام أعدائها الطواغيت، ومن أقوى تلك الشبهات ما نذكره فيما يلى: (1) أن الولاية المسموح بها للمرأة هى الولاية الخاصة، أما الولاية العامة فليست للمرأة؛ لما أخرجه البخارى عن أبى بكرة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة». والجواب عن هذا الشغب هو أن القرآن الكريم لا يعرف هذه التفرقة فى الولاية بين العامة والخاصة، فهو اختراع يهدف إلى تبرير انتقاص حق المرأة، قال تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» (التوبة: 71). وأما حديث أبى بكرة فإن لم يكن خاصاً ببوران بنت كسرى التى دعا الرسول، صلى الله عليه وسلم، على والدها بأن يمزق ملكه كما مزّق كتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذى أرسله إليه يدعوه فيه إلى التواصل، فإن الحديث ينفى فلاح قوم ولّوا أمورهم شخصاً واحداً، رجلاً أو امرأة؛ إذ لا يستطيع الإنسان مهما كانت قدراته أن يلى أمور أمة وحده دون مؤسسات. (2) أن المرأة ناقصة عقل ودين فليست كالرجل، وقد أخرج الشيخان عن أبى سعيد الخدرى أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن». والجواب عن هذا الشغب أنه مبنى على الفكر القاصر الذى يظن فى رسول الرحمة أن يكسر خاطر النساء ويصفهن بهاتين النقيصتين فى العقل والدين بما لم تكسب أيديهن، مع أنه صلى الله عليه وسلم، هو الذى أوصى بهن خيراً، إلا أن يكون مقصده التفكه بالمجاز مجاراة على لغة المشاغبين، وإلا فإن الحديث حجة على أصحاب العقول الحازمة من أعقل الرجال ليسألوا أنفسهم من الذى يُذهب بعقولكم إلا المرأة التى وصفتموها بالنقصان عقلاً وديناً، فمن أنتم إذن وما موقعكم من العقل والدين، إذ يذهب بكم من وصفتموه بالنقص؟! (3) أن المرأة عديمة الخبرة بالحياة العامة، أو ناقصة التجارب فيها، وخروجها للحياة العامة مفسدة اجتماعية وداعية للرذيلة؛ لذلك لم تكن مؤهلة للقيادة. والجواب عن هذا الشغب هو فى محاسبة من اتهمها فى خبرتها ودينها بغير حق، كما يجب مؤاخدة من أقصاها عن الحياة العامة ليتهمها بثمرة ظلمه. ومع ذلك فإن أحداً من الرجال لا ينكر فضل أمه عليه، ولا فضل زوجته فى إنقاذه بالنصيحة التى لا تخرج من خبير فى أعقد المشاكل، وحسبنا فى ضرب المثال بما أخرجه ابن حبان، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، دخل على «أم سلمة» أم المؤمنين حزيناً يوم الحديبية، بعد أن أمر أصحابه بالحلق والنحر لفك إحرامهم بالعمرة فأبوا، فقالت: أو تحب ذاك؟ اخرج ولا تكلمن أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك. فقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فخرج ولم يكلم أحداً منهم حتى نحر بدنه ثم دعا حالقه فحلقه، فلما رأى ذلك الناس جعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً. وأما اتهام المرأة بأن خروجها مفسدة اجتماعية ونشر للرذيلة، فهذا اتهام فى الدين وطعن فى الأعراض بغير بينة يخضع أصحابه لعموم قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِى الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (النور: 19)، ثم كيف بنا نُلقى بالتبعة على المرأة فى جريمة لا تقع إلا من طرفين؟ أليس من الأولى تحميل الرجل كامل الأوصاف ديناً وعقلاً بها، أم أن الرجل محظوظ عند الله عن المرأة؟ (4) أن المرأة عاطفية تنحرف عن الحق بالعاطفة، وضعيفة النفس تعجز عن التعامل مع العنف مثل جرائم القتل والحدود؛ ولذلك منعها جمهور الفقهاء من تولية القضاء وغيره من الولايات العامة. والجواب عن هذا الشغب هو أن عاطفة المرأة وإنسانيتها قد وظّفته لحيدتها ونزاهتها ووفائها، فهى التى إذا ارتبطت برجل على وجه مشروع لم تتخلَ عنه حتى يكون هو الذى يتخلى عنها. بخلاف الرجل الذى يرتبط بزوجة وفيّة يعلن حبه لها وسرعان ما يجرى وراء هواه وعاطفته، فيتزوج الثانية والثالثة، فمن الذى يتهم بالعاطفة الطائشة؟ وأما اتهام المرأة بالضعف لإبعادها عن الولاية العامة فإن الضعف صفة إنسانية يشترك فيها الرجال والنساء كما قال تعالى: «وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا» (النساء: 28)، ومع ذلك فإن المرأة هى الأكثر تحمّلاً وحُسن معاملة مع الأبناء المراهقين بطول الصبر مع كريم المعاهدة والمتابعة عن الآباء الذين يضيقون ذرعاً بهم والتسرّع بضربهم أو طردهم. (5) أن الله تعالى اصطفى أنبياءه ورسله من الرجال، للدلالة على أن الولاية العامة خاصة بهم دون النساء. والجواب عن هذا الشغب هو أن اصطفاء الأنبياء والرسل إنما كان من أجل رسالة السماء التى فيها توصية الرجال بالنساء؛ إذ كيف تكون الوصية بالنساء للنساء، فقد أخرج الشيخان عن أبى هريرة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم، فأخذت بحقو الرحمن، فقال لها: مه. قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك. قالت: بلى يا رب. قال: فذاك». قال أبوهريرة: اقرأوا إن شئتم: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ» (محمد: 22). الحقيقة هى أن المشاغبين لا يعرفون من كتاب الله عن المرأة إلا قوله تعالى: «فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ» (النساء: 3). أما آية المحرّمات فيمرون عليها كراماً، وهى قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا» (النساء: 23)، كما قد لا يقفون عند آية المحصنات التى قال الله فيها: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (النور: 4). الغريب والعجيب أن الرافضين لولاية المرأة هم مثل سائر الخلق غارقون فى كفالتها ورعايتها، فهم من أصحاب الخطاب المزدوج العنترية فى الخارج والاستكانة فى الداخل، وكان الأولى بهم أن يكونوا بوجه واحد مستقيم لإنصاف المرأة من أنفسهم كما قال تعالى: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ» (النساء: 135)، وليستحضر الرجال أحوال أنفسهم ليروا نصف حياتهم الأولى فى كفالة أمهاتهم، ونصفها الثانى فى كفالة زوجاتهم. لعل التهمة الوحيدة التى ألحقها الرجال بالنساء هى قولهن المتجدّد «هات وهات»، بما يزعج الرجال لسبب بخل بعضهم أو فقره وقلة ذات يده، أو كسله وركونه إلى بقاء ما كان على ما كان. وهذه الأسباب الثلاثة (البخل والفقر والكسل) هى أعداء الإعمار والتطوّر ولن تنصلح مصر معها. فإذا أردنا لمجلس النواب المصرى أن يكون محركاً للحكومة ودافعاً لسكونها وتقدّمها من أجل مصر المستقبل والحضارة، فلنستكثر من اختيار النساء الصالحات للمجلس النيابى حتى يبلغ عددهن النصف، لأنهن نصف المجتمع. وحسبنا تجربة المرحوم الشيخ محمد الغزالى المتوفى 1996م، الذى انساق فى أول شبابه وراء الخطاب الدينى الوصائى، فأصدر كتابه «من هنا نعلم» سنة 1951م، للرد على كتاب الأستاذ خالد محمد خالد «من هنا نبدأ»، وقطع الشيخ الغزالى فى هذا الكتاب بأن المرأة ليس لها إلا البيت ورعاية الأطفال، وإلا فهى مارقة فاسقة، ثم بعد استيعابه لكثير من واقع الحياة ندم عن فتواه تلك التى أساء فيها الظن بالمرأة المصرية، فقد وجدها ذات مروءة ودين وجمعت بين مصالح بيتها وأمانة عملها، ولكن كان ذلك سنة 1986م، فأصدر كتابه «سر تأخّر العرب والمسلمين» وانتهى فيه إلى حق المرأة فى تولى الوظائف العامة إلا رئاسة الدولة بدعوى أنها ولاية عامة، ثم قدّم للمرة الثانية ندمه عن فهمه القاصر فى عام 1989م، فأصدر كتابه «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث» وانتهى فيه إلى حق المرأة فى تولى رئاسة الدولة، باعتبارها وظيفة رفيعة المستوى وليست ولاية عامة بعد التطوّر الحضارى فى تقسيم السلطات وتوزيع المسئوليات وفقاً للدستور، وصدق الله حيث يقول: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» (ق: 37).