«طالبان».. وعاداتها القديمة

في الأسابيع الأخيرة، أمكنني أن أقرأ عنوان "(طالبان) تعود لعاداتها القديمة" أكثر من مرة وفي أكثر من منصة صحفية، وقد توزع ذلك بين المعالجات الإخبارية والتحليلات والمقالات.

لا تتوافر معطيات تشير إلى ثمة اتفاق على استخدام هذه الفكرة للتعبير عما آلت إليه تصرفات الحركة، التي استكملت هيمنتها على معظم التراب الأفغاني، في أعقاب الانسحاب الأمريكي، في أغسطس 2021. لكن يبدو أن هذا الانطباع هيمن بتلقائية على كثيرين ممن تصدوا لتغطية الأحداث الأفغانية أو محاولة تحليلها، خصوصاً هؤلاء الذين كانوا قد عولوا على إمكانية أن تظهر "طالبان" القدر اللازم من البراجماتية والتفكير العملي والمنطقي، لتسهيل تأهيلها دولياً وتوطيد ركائز حكمها.لقد انتظر النقاد كثيراً قبل أن يكشفوا عن قلقهم البالغ وامتعاضهم الواضح من إفراط حركة "طالبان" في توقيع العقوبات العلنية بحق الأفراد الذين تعتقد أنهم مدانون، وفق سياستها في تطبيق "الحدود الشرعية"، التي أعلنت تفعيلها في 14 نوفمبر الماضي.ومصادر القلق معروفة ومُقنعة في آن واحد؛ فمن بين المشاهد التي تم توثيقها وتناقلها على وسائط "التواصل الاجتماعي" والمنصات الإخبارية الموثوقة ما يكشف عن عمليات رجم وإعدام علنية لرجال ونساء في ملاعب كرة قدم في أنحاء عديدة من البلاد.

وعندما صدرت التقارير الحديثة بشأن الضغوط والمضايقات التي تتعرض لها النساء في بلدان العالم المختلفة، تم الاتفاق على أن أفغانستان في ظل حكم "طالبان" تحتل المكانة الأولى كأسواء مكان للنساء في العالم، وهو أمر اتفقت عليه مراكز بحوث واستطلاعات رأي موثوقة ومعتبرة.

فمنذ أغسطس 2021، وبحسب السياسات السائدة، لا يُسمح للنساء بالخروج إلى الشارع لوحدهن، وفي 2022، فرضت السلطات أوامرها باستبعاد النساء من التعليم الجامعي، فضلاً عن منعهن من العمل في المنظمات غير الحكومية.تمثل تلك حالة من الضغوط الغليظة والمتجددة على النساء، بشكل يضيق حضورهن الاجتماعي، ويقوض حقوقهن القانونية، ويجسد ردة عن بعض التطور الذي لحق بعالمهن على مدى العقدين الفائتين.

وفي الشهر الماضي، انتشرت الأخبار عن إقدام السلطات الأفغانية على إجبار رجلين متهمين بالسرقة على ارتداء "التشادور" النسائي، وعرضهم على المواطنين، كشكل من أشكال الإهانة، باعتبار أن تصويرهم في صورة النساء إنما يحط من شأنهم بالضرورة، وهو أمر يمكن أن يحدث للأسف الشديد في بيئات شعبية في دول عديدة، لكن صدوره عن السلطات أو ممثليها يعطي الانطباع بأن هذا التفكير سائد ومستقر لدى طبقة الحكم أيضاً.

لقد أفرط البعض في التفاؤل عندما انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان في 2021، وعندما تعهدت الحركة باحترامها المواثيق، وخاضت مفاوضات من أجل إحكام قبضتها على البلاد، بموازاة إعطاء تطمينات غير ملزمة بعدم التورط في انتهاج سلوكيات تتناقض مع المعايير الدولية تناقضاً صارخاً.ورأى هؤلاء أن "طالبان" كقوة حكم لديها التزامات سياسية وسمعة دولية مُبتغاة ستكون مختلفة عنها كحركة "مقاومة" ذات إسناد ديني تريد أن تسترد سيطرتها على البلاد، عبر التحشيد والأدلجة.

لكن يبدو أن الحركة لم تظهر الاهتمام بتأكيد تلك التوقعات، بل ربما راحت تفعل العكس تماماً، وهذا ما أكدته التقارير الدولية التي أشارت إلى تطبيق 36 عقوبة علنية بين أكتوبر 2022 ومارس 2023.ويبدو أن المفاوضات التي أفضت إلى هيمنة "طالبان" على أفغانستان حكمتها مصالح سياسية طارئة وضيقة تغلبت على المبادئ المُعتبرة دولياً في مجال صيانة الحريات وحقوق الإنسان.

فثمة خطورة كبيرة تكمن في إفلات "طالبان" من أي مساءلة دولية بخصوص الإجراءات العقابية والسياسيات التمييزية التي تتخذها بحق النساء وأطراف أخرى في المجتمع، خصوصاً إذا أصرت على تسييد منطقها وإنفاذ رؤيتها الدوجمائية في إدارة البلاد. وفي السيناريو الأسوأ، سيمكن أن نتوقع أن تتحول أفغانستان مجدداً إلى أيقونة للإرهابيين المستندين إلى دعاوى دينية مُضللة، وبؤرة لإعدادهم وتوزيعهم على المناطق الساخنة في المنطقة العربية والعالم.

إن المواجهة العالمية لإجراءات التمييز والقمع والاضطهاد التي تتُخذ بحق الفئات الأضعف، وخصوصاً النساء، لن تكون فعالة إلا إذا كانت عادلة ومتسقة مع المعايير الدولية ومنقطعة الصلة عن مساومات السياسة.لقد تشكلت ملامح واقع جديد في أفغانستان ستكون "طالبان" الفاعل المهيمن فيه، وهو واقع لن ينحصر أثره في حدود هذا البلد وجغرافيته الوعرة، لكنه سيمتد ويؤثر في الأمن والسلم الإقليميين والعالميين.

لا يمكن لأي منصف أن يقبل بفكرة دعم الاحتلال الأجنبي أو أن يضع قيوداً على حركات التحرر الوطني تمنعها من ممارسة أدوارها وبذل تضحياتها لنيل الاستقلال؛ إذ يبقى الاحتلال الأجنبي فكرة ساقطة مهما كانت ذرائعه ومسوغاته، لكن استبدال الإرهاب والاستبداد الديني بالاحتلال ليس أفضل ما يمكن فعله لخدمة مصالح الشعوب.إن احترام الخصوصية الثقافية والتراث الوطني وحق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار نظم الحكم الملائمة لها والمتسقة مع طبيعتها أمر ضروري وحيوي، لكن من المهم أن يعمل المجتمع الدولي لضمان آلا تكون تلك "الحقوق" مسوغاً لإشاعة الكراهية والتمييز، ورجم الناس وتعذيبهم في الساحات، واضطهاد النساء، وانتهاك حقوق الأقليات.