الملك عبدالله بن عبدالعزيز.. وثورة الحوار

فى جنازة بسيطة جداً مطابقة للشريعة الإسلامية، وسد الثرى فى قبر متواضع جداً خادم الحرمين الشريفين عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله.. ولأن الرجل كان بسيطاً فى حياته وعميقاً فى فكره وحاسماً فى قراراته، فقد آثر أن تكون حياته بسيطة لا تشابه حياة الملوك المترفين، وأن تكون جنازته كذلك، ليمضى إلى ربه دون انتظار أحد. يمكن أن نطلق على الملك عبدالله بن عبدالعزيز أنه الأستاذ الحقيقى للغة الحوار، سواء بين الدول والأديان أو المذاهب أو القبليات والعشائريات بعضها بعضاً.. وهو المؤسس لفكرة الحوار الوطنى السعودى.. وهو الذى وضع الإطار الدينى والوطنى كثابت لتلاقى الجميع حول الوطن السعودى، والحوار المسيحى - الإسلامى فى الفاتيكان.. والمذهبى والمذهبى.. واللبنانى واللبنانى، و«فتح» و«حماس».. و«مبارك» و«بشار».. ومصر وقطر. لقد كان الملك الراحل عبدالله عروبياً، يرى كسائر أشقائه أنه لا قيام للعرب إلا بمصر شعباً وجيشاً.. وأن التحالف الثلاثى بين مصر والحجاز والشام هو أساس كل خير ناله العرب والمسلمون.. وأن الملكين «سعود» و«فيصل» وقفا إلى جوار «مصر - عبدالناصر» بعد نكسة 5 يونيو، رغم ما كان بينهما من جفاء، لأن سقوط مصر وجيشها يعنى سقوط العرب. وظل الملك فيصل يدعم مصر حتى انتصرت فى حرب أكتوبر ووقفت على قدميها، ودفع الرجل حياته ثمناً لهذا الموقف. والملك عبدالله حينما وقف مع مصر كدولة ومؤسسات لم يقف معها من أجل شخص أو ضد جماعات أو أشخاص.. ولكنه أحب ألا تسقط الدولة.. ولأنه رجل دولة من الطراز الأول يرى أن بقاء الدول مقدم على كل شىء. بين الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز وأبيه شبه كبير.. فكلاهما يحب الدين ويقدّمه على كل شىء، ولكن كلاً منهما يعلم أن التديّن الحقيقى هو الذى يتلاحم مع الحياة.. ويتفاعل معها ويبنى الدول ولا يهدمها ويأخذ من غير المسلمين النافع فى الدنيا.. وأن الإسلام دين ديناميكى وليس إستاتيكياً.. وأن الدول والممالك تقوم على الوسطية ويُسر الدين ومرونته فى المتغيرات.. وأن أفضل ما يقيم الدول هو تلاقى أهل الدين مع أهل الحكم وعدم صدامهما.. القرآن مع السلطان.. أو الحديد مع الكتاب.. فالكتاب يهدى الحديد ويحول بينه وبين الظلم.. والسلطان يحمى الدولة ويحرسها من العدو الداخلى والخارجى. وقد كانت للأب الراحل الملك عبدالعزيز تجربة مع فصيل إسلامى تحالف وقاتل معه حتى استقر الأمر للمملكة.. ولكن هذا الفصيل رفض انفتاح المملكة على الآخر والحياة الحديثة ومقتضيات العصر.. فناقشهم الملك الأب كثيراً، وقال لهم ما معناه: «إن الدول لا يصلح لها التشدُّد وسد الذرائع، بل يصلح معها اليُسر والبساطة وفتح الذرائع والانفتاح على العالم كله». ولكن دون جدوى.. وفى الختام قال لهم: «إننى أحملكم فوق رأسى، فإن هززت رأسى فوقعتم على الأرض فلن أنحنى لآخذكم مرة أخرى».. ثم بدأ الصراع بينهما الذى أدى إلى نهاية هذه الجماعة المتشدّدة ومقتل كثيرين منهم. وأعتقد أن الملك عبدالله الابن وقع له شىء من ذلك، ولكن بطريقة مختلفة فقد وجد أن مسحة كبيرة من التشدُّد غزت الشباب السعودى بعد ظهور «القاعدة»، وأن بعض مقولات وكتابات الدعوة الوهابية فيها نوع من الغلو والتشدُّد أو عدم المرونة الفقهية.. وأن بعض الشباب الذين تربُّوا على هذه الكتب، التى اختلطت أيضاً بكتابات تكفيرية صبّت فى فكر «القاعدة».. وأن الشباب السعودى الذى ذهب للجهاد فى أفغانستان وغيرها عاد محمّلاً بهذه الأفكار، وأن «الوهابية» بصورتها القديمة أصابها الجمود والتكلس عن مواكبة العصر ومستجداته.. وأنها قد تصلح لدولة كلها مسلمون لا تنفتح على الآخرين.. وأن التشدُّد الكبير فيها نحو غير المسلم من ناحية ونحو الشيعة من جانب آخر قد يضر السعودية كدولة بعد أن كان يفيدها أحياناً.. وأنها تجعل المرأة وكأنها كم مهمل أو كائن لا ينبغى أن يظهر فى الحياة العامة، مع أن الإسلام أيام الرسول، صلى الله عليه وسلم، أشركها فى كل شىء بشرطين: 1- نفع نفسها أو وطنها أو كليهما معاً.. 2- التزامها بآداب الإسلام وتعاليمه.. كما وجد حالة من الجمود الفقهى الذى أصاب الفقه فى المدرسة الوهابية حتى منعت الحُجاج من الرمى ليلاً فترة طويلة، مما أدى إلى كارثة «منى» الشهيرة.. فكان لزاماً على الملوك أن يتحرّكوا لتغيير المنظومة الفقهية نحو المرونة والتيسير.. خاصة أن أمر جواز الرمى ليلاً أقرّه بعض الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الأربعة، وقال به الأزهر وأجازه الرسول، صلى الله عليه وسلم، للرعاة حماية لأغنامهم ومراعاة لعملهم.. أفلا تكون أنفس الحجاج أولى بالرعاية من مصلحة الأغنام ورعايتها. ولهذا جاء الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله، ليُشجّع العلماء والفقهاء السعوديين نحو تجديد الوهابية خاصة، والفقه السعودى عامة، ليتواكب مع الحياة الحديثة دون الإخلال بالثوابت.. ونزع كل ما يدعو إلى التكفير فى كلمات وكتابات بعض رموز الدعوة الوهابية من جهة وبعض العلماء السعوديين أو المصريين الذين درسوا فى السعودية مناهج قريبة من منهج الشيخ سيد قطب.. وحاول إشراك المرأة برفق وتدرُّج وأناة فى الحياة العامة. رحم الله الملك الراحل الذى قام بأكبر توسعة للحرم المكى، وكان رجل دولة بحق يصمت كثيراً ويتخذ أصعب القرارات فى هدوء ودون ضجيج.