كبار المقرئين المصريين.. تأثير وحضور وجزء مهم من الهوية والثقافة المصرية

كبار المقرئين المصريين.. تأثير وحضور وجزء مهم من الهوية والثقافة المصرية
تاريخ طويل لتلاوة القرآن الكريم فى مصر، أصوات مميزة ومدارس عديدة أفرزت أجيالاً من القراء العظماء، وحناجر ذهبية طافت الدول العربية والعالم، تسلطن كل من يستمع إليها، حاملين على عاتقهم رسالة سامية، وخير علم لا مثيل له.
تلاوة القرآن الكريم جزء لا يتجزأ من الهوية والثقافة المصرية، فمنذ تاريخ طويل يشهد الريف «الكُتاب» ومدارس تحفيظ القرآن الكريم التى تحظى باهتمام كبير مدفوع برغبة الأهالى فى تحفيظ أطفالهم آيات كتاب الله منذ عمر صغير، لذا تخرّج فى هذه الكتاتيب رموز ونوابغ فى التلاوة، أصبحوا فيما بعد أحد أهم فرسانها.
«إسماعيل» أول قارئ يسجل في الإذاعة المصرية دون الخضوع لاختبارات
ويرجع تاريخ مدرسة التلاوة المصرية إلى اكتشاف نسخة محرّفة من القرآن الكريم فى بعض الدول الأفريقية خلال فترة الستينات، لذلك جاءت فكرة تسجيل القرآن صوتياً، والتى تُرجمت إلى «إذاعة القرآن الكريم»، التى انطلقت يوم 25 مارس عام 1964، وغطت إذاعتها الوطن العربى، وأجزاء ومناطق من أفريقيا، ويخرج منها بعد ذلك حناجر ذهبية، حفر أصحابها أسماءهم بماء من ذهب، وظلت أصواتهم فى آذان جميع أنحاء العالم الإسلامى، وأسسوا لمدرسة التلاوة المصرية.
فى إحدى المرات سُئل الشيخ محمد متولى الشعراوى عن رأيه فى أصوات القراء، فكان له رد شهير جداً وقتها، قائلاً: «إن أردنا أحكام التلاوة فالحصرى، وإن أردنا حلاوة الصوت فعبدالباسط عبدالصمد، وإن أردنا النفس الطويل مع العذوبة فمصطفى إسماعيل، وإن أردنا هؤلاء جميعاً فهو محمد رفعت»، حيث يُعد الشيخ «رفعت» أحد أبرز مشايخ التلاوة، إذ وُلد فى عام 1882 بحى المغربلين بالقاهرة، وفقد بصره وهو فى الثانية من عمره، وحفظ القرآن فى الخامسة.
«رفعت» سجّل سورة مريم للإذاعة البريطانية «بي بي سي» بفتوى من الشيخ المراغي
تولى الشيخ محمد رفعت القراءة بمسجد فاضل باشا بحى السيدة زينب سنة 1918، وهو فى سن الخامسة عشرة، وافتتح بث الإذاعة المصرية سنة 1934 بسورة الفتح: «إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً»، وحينما سمعت الإذاعة البريطانية «بى بى سى» صوته أرسلت إليه وطلبت منه تسجيل القرآن، ولكنه رفض ظناً منه أنه حرام، فاستفتى الإمام المراغى فشرح له الأمر وأخبره بأنه غير حرام، فسجل لهم سورة مريم.
وباعتباره أحد أهم رموز التلاوة فى العالم الإسلامى، لُقب الشيخ «رفعت» بالعديد من الألقاب، منها: «قيثارة السماء، الصوت الملائكى، كروان الإذاعة»، وغيرها من الألقاب التى حاولت وصف جمال وحلاوة حنجرته، حتى أصيب بالسرطان فيها عام 1943 وتوقف عن القراءة، وفارق الحياة عام 1950.
أما أول قارئ يسجل فى الإذاعة المصرية دون أن يمتحن فيها، فكان الشيخ مصطفى إسماعيل، حيث جمع بين عذوبة الصوت وقوة الأداء، ومزج بين علم القراءات وأحكام التلاوة وعلم التفسير وعلم المقامات، كما اختاره الملك فاروق قارئاً للقصر الملكى، وكرّمه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر واصطحبه معه الرئيس السادات فى زيارته للقدس، بينما كان أعظم ما قام به هو أن ترك خلفه 1300 تلاوة لا تزال تبث عبر إذاعة القرآن الكريم.
وتلقى الشيخ مصطفى إسماعيل العديد من الدعوات والطلبات من دول عربية إسلامية للقراءة فيها، فلبى تلك الدعوات، حيث زار نحو 25 دولة عربية وإسلامية، وقد زار الشيخ إسماعيل القدس 3 مرات، إحداها كانت عام 1960 وقرأ فى المسجد الأقصى فى ليلة الإسراء والمعراج، كما زارها مرة أخرى عام 1977 ضمن الوفد الرسمى المصاحب للرئيس السادات فى زيارته للكنيست الإسرائيلى، كما حصل على العديد من الأوسمة الرفيعة. أما مدرسة العذوبة، فكان ناظرها الشيخ طه الفشنى، أحد أعلام قراءة القرآن والمنشدين المصريين بالعالم الإسلامى عامة والدولة المصرية خاصة، إذ ذاع صيته فى التواشيح، ليستدعيه رئيس الإذاعة، ويلتحق بها عام 1937، وتقدر صوته بأنه قارئ من الدرجة الأولى الممتازة، وكان مخصصاً له قراءة 45 دقيقة فى المساء فى الإذاعة المصرية، كما عُين قارئاً لجامع السيدة سكينة سنة 1940. ويُعد «الفشنى» أول من ظهر بالتليفزيون المصرى حين نشأته، كذلك أصبح رئيس رابطة قراء القرآن الكريم بعد وفاة الشيخ الشعشاعى، كما اختير لإحياء الليالى الرمضانية بقصرَى «عابدين» و«رأس التين»، وصار القارئ المفضل للرئيس جمال عبدالناصر، وسافر العديد من البلدان لإحياء الليالى بها، وكُرّم من العديد من الرؤساء. وبين فرسان التلاوة، حجز الشيخ محمد صديق المنشاوى مكانة خاصة به، حيث كان خير داعية إلى الله وكتابه ودينه على مستوى العالم، وحمل لقب «مقرئ الجمهورية العربية المتحدة»، كما لبَّى دعوة رؤساء بعض الدول للقراءة فى الخارج، كدعوة الرئيس الإندونيسى أحمد سوكارنو، برفقة نظيره الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، فبكى أثناء تلاوته لبكاء الجمهور المتواصل، ومنحه سوكارنو وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى، وحصل على وسام الاستحقاق من الطبقة الثانية من سوريا.
أما الشيخ أبوالعينين شعيشع فيُعد أحد عباقرة المقرئين، ورائداً من رواد التلاوة فى العصر الذهبى لقارئى القرآن الكريم، إذ قرأ فى الروضة الشريفة والحرم المكى وأهم مساجد العالم فى ضيافة الملوك والرؤساء، وتم تكريمه بأهم الأوسمة، كما يُعد أول قارئ للقرآن الكريم يسافر إلى الدول العربية، وذلك فى عام 1940 بدعوة من إذاعة الشرق الأدنى ومقرها فلسطين، التى تعاقدت معه لمدة 3 أشهر، ليقرأ قرآن صلاة الجمعة من المسجد الأقصى وتنقلها إذاعتا الشرق الأدنى والقدس على الهواء مباشرة، كما كان يسافر كل عام إلى الخارج ليقرأ فى ليالى رمضان المبارك فى كثير من بلدان العالم الإسلامى.
وبالطبع عندما تُذكر التلاوة يذكر اسم الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، أحد أشهر قراء القرآن الكريم فى العالم الإسلامى، وصاحب الشعبية الجارفة، بما جعله يُلقَّب بـ«الحنجرة الذهبية، صوت مكة»، حيث زاد الإقبال على شراء أجهزة الراديو وتضاعف إنتاجها وانتشرت بمعظم البيوت للاستماع إلى صوت الشيخ عبدالباسط، خاصة كل يوم سبت، على موجات البرنامج العام من الثامنة وحتى الثامنة والنصف مساءً.
وأذيعت ليالى الشيخ عبدالباسط على الهواء مباشرة من المساجد الكبرى، ومن أشهر المساجد التى قرأ بها القرآن المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوى الشريف بالمدينة المنورة بالسعودية والمسجد الأقصى بالقدس وكذلك المسجد الإبراهيمى بالخليل بفلسطين والمسجد الأموى بدمشق، وأشهر المساجد بآسيا وأفريقيا والولايات المتحدة وفرنسا ولندن والهند ومعظم دول العالم.
ولا يمكن أن ينسى أحد صوت الشيخ محمود خليل الحصرى، الذى يُعد من أعظم قرّاء مصر البارزين، حيث كان أول من ابتُعث لزيارة المسلمين فى الهند وباكستان وقراءة القرآن الكريم فى المؤتمر الإسلامى الأول بالهند فى حضور الرئيس جمال عبدالناصر والرئيس جواهر لال نهرو فى عام 1960، ويتم تعيينه بعد ذلك فى عام 1961 شيخاً لعموم المقارئ المصرية.
وفى عام 1961 كان أول من سجل المصحف المرتل فى أنحاء العالم برواية حفص عن عاصم وظلت إذاعة القرآن الكريم تقتصر على إذاعة صوته منفرداً حوالى عشر سنوات، وفى عام 1964 كان أول من سجل المصحف المرتل فى أنحاء العالم برواية ورش عن نافع، كما حصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى فى عيد العلم عام 1967.
وفى عام 1945 حضر الشيخ محمود على البنا من شبين الكوم إلى القاهرة 1945، واستمع إليه فى أحد الاحتفالات على ماهر باشا، والأمير عبدالكريم الخطابى وعدد من كبار الأعيان الحاضرين للحفل، وطلبوا منه الالتحاق بالإذاعة المصرية، ليلتحق بها بالفعل عام 1948، وكانت أول قراءة له على الهواء فى ديسمبر 1948 من سورة هود، وصار خلال سنوات قليلة أحد أشهر أعلام القراء فى مصر، وترك لها ثروة هائلة من التسجيلات، إلى جانب المصحف المرتل الذى سجله عام 1967، والمصحف المجود فى الإذاعة المصرية، والمصاحف المرتلة التى سجلها لإذاعات السعودية والإمارات.
زار الشيخ البنا العديد من دول العالم، وقرأ القرآن فى الحرمين الشريفين والحرم القدسى والمسجد الأموى، وناضل من أجل إنشاء نقابة القراء، واختير نائباً للنقيب عند إنشائها عام 1984، كذلك زار الجاليات الإسلامية فى آسيا وأوروبا وأفريقيا، وكلفته وزارة الأوقاف المصرية عدة مرات بتمثيل مصر فى مؤتمرات ولجان القرآن الكريم بالدول الأجنبية، ليحصل على العديد من الأوسمة والشهادات.