«بالطو».. كي لا يقول ابنك: «أكيد بابا عارف»!

تستحقُ المُعالجة الدرامية لمسلسل «بالطو» العلامة الكاملة، حيث ساهمت ببساطة تشبه السحر، في تحويل رواية خفيفة تقص بأسلوب هزلي مواقف صادمة للأطباء حديثي التخرج مع تجربة التكليف في الريف، إلى مشاهد جادة تتناول قضايا اجتماعية شائكة، بجرأة تُحسب لصناع هذا العمل حديثي السن والخبرة.

أعترف أنّ المشاهد الافتتاحية في الحلقة الأولى قد اختطفتني في مسار موازٍ للخط الدرامي لهذا العمل الفني المتميز، والتي عكست طغيان إرادة الأب على حُلم الابن، وتوجيه مسار حياته ليصبح طبيبا، الأمر الذي أنار في عقلي عشرات علامات الاستفهام حول إشكالية التنشئة وخطورة تأثيراتها، والتي تمثل شاغلا وهما لكونها ترتبط بالمستقبل، وتساءلت: هل حاولنا يوما رؤية كل موقف من زاوية الأبناء؟، ثم توالت الاستفسارات.. هل يقتنع ابني بالمُبررات التي أسوقها له ليمضي مدفوعا إلى تدريب الرياضة التي يمارسها، أم يراني في صورة المُستبد الذي يفرضُ عليه طريقا لا يعبر عن اهتماماته؟، هل ينجح التحيّز الواضح من جانبي لتجربة المدارس التكنولوجية التطبيقية في إقناعه بالانضمام إلى إحداها عقب إتمامه المرحلة الإعدادية، أم سيكون عليّ أن أستجيب لحرصه على مواصلة المسار التعليمي الاعتيادي مع دائرة زملاء الأقرب؟ هل سيكون بوسعي إقناعه باستكمال دراسته الجامعية في مصر، أم أنصاع لرغبته في الالتحاق بجامعة ذات صيتٍ في الخارج؟.

قد يتأخر الأبوين كثيرا في تشكيل شخصية الابن، بزعم أنّه ما زال طفلا، يختارون له نوع طعامه، ولون رداءه، وتوقيت نومه، والهواية التي يمارسها،  والفريق الرياضي الذي يشجعه، ودائرة الأصدقاء الأقرب والأبعد، والمسار التعليمي والمهني الذي يسلكه، وربما رفيقة الحياة التي يرتبط بها، وكأنّنا نعتبر الاختيار مشقة ونسعى لتجنيبهم إياها، لتكون النتيجة شخصية مهزوزة غير قادرة على بناء الأفكار أو مواجهة الحياة أو اتخاذ أي قرار حتى وإن كان بسيطا، ثم يتفاقم الأمر كلما تقدم بالإنسان العمر ووجد نفسه في دوائر جديدة تتطلب أن يكون مسؤولا عن اتخاذ قرارات مصيرية، لا تخصه وحده، بل تمسُ أفراد في دائرة مسؤوليته!

وبالعودة إلى سؤال: هل حاولنا يوما رؤية كل موقف من زاوية الأبناء؟، إذا كانت الإجابة «لا»، فلابد أن ندرك أنّنا نسير عكس الوجهة الصحيحة، دون أن يشفع في ذلك مبرر تكرار ذات نمط التنشئة الذي خضعنا له ونحن صغار، فوسط هذا الكم من النوافذ التي تجعل الأبناء منفتحين على العديد من الأفكار والقيم، أصبح مفتاح التنشئة السليمة هو «الثقة»، بحيث نحتوي الأبناء، لنغرسُ في داخلهم القيم، ونسعى لاستيعاب توجهاتهم، مع منحهم مساحة للإختيار والقرار، دون قيود يسعون لكسرها، أو رقابة يحاولون الهرب منها، حيث لم يعد بإمكانك منع ابنك من الإبحار بعيدا عن الشاطئ الذي تعتقد أنّه مصدر الأمان له، امنحه قارب الثقة، وأضمن له وسائل الأمان والسلامة، ودعه يُبحر، ليكتشف العالم ويبني توجهاته ويغدو صاحب قرار.

بين حلقات مسلسل «بالطو» ردٌ صادم من «الدكتور عاطف» الشخصية الرئيسية، على سؤال من «الدكتورة هاجر»، يستنكر عدم معرفته لهدف حياته، ليقول باستسلام «أكيد بابا عارف»، وهذه نتيجة حتمية لسطوة الأب على اختيارات الابن، وهو ناقوس خطر، يُشير إلى أنّ طريق تنشئة أبناءنا ربما يبدأ من تقويم أنفسنا أولا.