انتهى شهر عسل الهجرة واللجوء

أمينة خيرى

أمينة خيرى

كاتب صحفي

انتهت قضية المهاجرين واللاجئين -على الأقل لحين إشعار آخر لا يبدو أنه يلوح فى أفق قريب- باعتبارها مسألة حقوقية وإنسانية. وانتهى شهر العسل بين الدول المستقبلة للاجئين والمهاجرين بالورود والرياحين، وبدأ عقد التعامل الفعلى والواقعى بناء على معطيات لم يعد فى الإمكان تجاهلها.تجاهل وقوع ما لا يقل عن نصف العالم فى قبضة أزمات طاحنة بين صراعات وفقر وعوز ومرض إلى آخر القائمة المعروفة، والنظر إلى نصف العالم الآخر باعتباره الوصول إليه غاية المنى والعيش فيه كل الأمل لم يعد فى الإمكان.

كما لم يعد فى الإمكان إنكار وقوع نصف العالم الأفضل هو الآخر تحت طائلة أزمات طرأت بسبب عامين من الوباء ثم حرب روسيا فى أوكرانيا، ناهيك عن مشكلات سياسية داخلية فى بعض دوله.بعض الدول -بل ليست مبالغة لو قلنا كل الدول- التى كانت حتى الأمس القريب تفتح ذراعيها لاستقبال المهاجرين واللاجئين، لا سيما اللاجئين، باعتبارها الدول المنقذة للمأزومين الداعمة للمظلومين المساعدة للمقهورين أصبحت منشغلة فى سن السياسات وإصدار القوانين التى من شأنها أن تضيق على قواعد استقبال المهاجرين واللاجئين. لم يعد فى إمكانها الإبقاء على أذرعها مفتوحة. والأسباب كثيرة.

بحسب أرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، وصل عدد اللاجئين والنازحين فى العالم فى عام 2022 إلى 103 ملايين شخص، بعد ما كان 89٫3 مليون فى عام 2021. وبين هؤلاء ما لا يقل عن 32٫5 مليون لاجئ وهو عدد كبير جداً.

واللاجئ هو من خرج من بلده بسبب خوف من التعرض للاضطهاد لأسباب ترجع إلى عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه لفئة اجتماعية معينة أو آرائه السياسية، وأدى هذا الخوف إلى افتقاره القدرة على أن يستظل بحماية دولته أو لم تعد لديه الرغبة فى ذلك.

ويبدو أن تواتر الصراعات والحروب وطول أمدها، واختلاط حابل الحاجة الماسة إلى الهرب للنجاة بنابل الرغبة الملحة لتحسين نوعية الحياة ومستوى المعيشة، بالإضافة إلى إساءة البعض استخدام «تعريف» اللاجئين أمور ساهمت فى استنفاد «قدرة» الغرب على استيعاب الأعداد المتزايدة المتفجرة الهاربة من هنا إلى هناك.لكن المسألة ليست استنفاد قدرة فقط، ولكن نفاد رغبة أيضاً.

ومن ينكر أن الدول المستقبلة للاجئين أو التى تعد قبلة اللاجئين المفضلة لديها هى الأخرى غايات وأهداف تحققها ومكاسب وفوائد تسعى إليها -أو بالأحرى كانت تسعى إليها- وقت كانت أذرعها مفتوحة لاستقبال هذه الملايين، عليه أن يراجع نفسه.بالطبع ملف الهجرة واللجوء له بعد وجانب إنسانى وحقوقى لا ينبغى إنكاره.

لكن الأبعاد والجوانب العملية والواقعية والحقيقية التى يمكن حسابها بالورقة والقلم تفرض نفسها فرضاً، لا سيما فى أوقات الأزمات.

وإذا كنا نحن من ابتدع المقولة العبقرية «ما يحتاجه بيتك، يٌحَرم على الجامع»، فإن دول الغرب تجد نفسها مجبرة أو ربما مخيرة لاتباع المبدأ، حتى لو كان «الجامع»، أى استقبال جموع راغبى الهجرة واللجوء، يأتى لها بسمعة حقوقية رائعة ويضعها فى مكانة إنسانية خلابة.

قبل أيام، أعلنت بريطانيا عن قانون من شأنه أن يمنع كل حالات المهاجرين من عابرى القنال الإنجليزى بشكل غير قانونى عبر القوارب. وزيرة الداخلية البريطانية (ووالداها من المهاجرين) سويلا برافرمان قالت إن أى شخص سيدخل بريطانيا بشكل غير قانونى سيتم اعتقاله وترحيله سريعاً.

وهذا يعنى أن حتى مقترح الترحيل إلى رواندا لحين البت فى طلب اللجوء، والذى اقترحته برافرمان وكان على وشك التطبيق قبل أشهر، وقوبل بموجة اعتراض عارمة من جموع المؤيدين للهجرة واللجوء والحفاظ على سمعة بريطانيا باعتبارها دولة مستقبلة للاجئين ومحترمة القواعد والنصوص الدولية فى هذا الشأن.

لكن الشأن الاقتصادى يتحدث عن نفسه، وما يكابده المواطن البريطانى، بل واللاجئ الذى يعيش فى بريطانيا منذ سنوات أو حتى أشهر أيضاً يتحدث عن نفسه.

الأزمة الاقتصادية طاحنة. والهجرة غير الشرعية باتت تكلف دافعى الضرائب ثلاثة مليارات جنيه إسترلينى سنوياً.

وفاتورة إقامة طالبى اللجوء لحين البت فى أمرهم فى فنادق فى بريطانيا تبلغ ستة ملايين جنيه إسترلينى يومياً.كنت فى زيارة إلى لندن قبل أسابيع، وأخبرنى سائق «أوبر» الذى أقلنى إلى مطار هيثرو أن الفنادق المحيطة بالمطار والتى يقيم فيها طالبو اللجوء تشهد يومياً قلاقل ومشكلات بين المقيمين وأفراد الأمن المكلفين بالحراسة.

اعتراضات على نوعية الطعام، ومحاولات هروب من الفندق، واشتباكات عديدة أحياناً تحدث بين المقيمين أنفسهم. قال: «الموضوع أصبح صعباً جداً.

الكثيرون من البريطانيين أصبحوا يعتمدون على بنوك الطعام لإطعام أبنائهم، ويلجأون إلى المكتبات العامة بحثاً عن الدفء لعجزهم عن سداد فواتير الطاقة».بالمناسبة، السائق أفغانى لجأ إلى بريطانيا قبل 17 عاماً.

كما أن بريطانيا مجرد مثال على المشهد الجديد للتعامل مع ملف الهجرة واللجوء.غاية القول هو أن شهر عسل الهجرة واللجوء انتهى، أو بات معلقاً. ونحمد الله كثيراً على نعمة الوطن.