جلال عامر «الحكيم الساخر»

كتب: أحمد عاطف

جلال عامر «الحكيم الساخر»

جلال عامر «الحكيم الساخر»

اختص أبناء الكاتب الكبير الراحل جلال عامر «الوطن» بـ4 مقالات متنوعة، كتبها كل من رامى وراجى ورانيا وريهام، وعلى اختلاف ما كتبه أبناء الساخر العظيم، إلا أن من يدقق فيها يلمس جزءاً من روحه المرحة وطلته الوقورة بين السطور.

هنا كتب ابنه الأكبر «رامى» متحسراً على لحظة كثيراً ما تمناها: «الشىء الوحيد الذى يؤلمنى، وسيظل معى إلى أن يحتضن جثمانى جثمانه يوماً هو غيابه عن اللحظة التى خططنا لها سوياً»، فيما يلتقط الابن الثانى «راجى» من تفاصيل الرحيل المؤلم ما يمكن أن يكتبه فى ذكرى رحيل والده الـ11، مُذكّراً ببعض التفاصيل التى كتبت لاسم الساخر الكبير خلوداً يليق بعطائه، ويقول: «وسط آلاف المدافن يقع مدفن متواضع كُتب عليه: لكننى صعلوك، عابر سبيل، ابن الحارة المصرية، ليس لى صاحب، لذلك كما ظهرت فجأة سوف أختفى فجأة، فحاول تفتكرنى».

هنا أيضاً على صفحات «الوطن» تمزج الابنة «رانيا» بين حديث الموت والحياة والحب، فتقول: «الموت لا يقوى على الحياة، فالموت حلقة تفصل بين حياة وحياة، والحب عنوانك، والموت لا يعرف للحب طريقاً»، وتختتم «ريهام» مقالات الأبناء بتذكُّر مواقف تعرضت لها كانت سيرة الوالد الطيبة حاضرة فيها، وتحكيها فى مقال استهلته بالنداء المحبب لها: «عزيزى جلجل».

صديقى الغالى

حضور جلال عامر فى غيابه أكثر قوة وطغياناً من حضور كثيرين يحتفلون بعيد ميلادهم الستين أو السبعين، الرجل موجود بيننا ومؤثر وفاعل، يعلّق على الأمور من خلف الستار، ينظر إلينا ويضحك، يلقى بحكَمه على أمل أن نتعلم يوماً ما، أنا لا يضايقنى غيابه، بل يسعدنى وجوده. الشىء الوحيد الذى يؤلمنى.

وسيظل معى إلى أن يحتضن جثمانى جثمانه يوماً هو غيابه عن اللحظة التى خططنا لها سوياً، يقول المسرحى الإغريقى الشهير سوفوكليس: «ليس هناك فرح أعظم من فرح الابن بمجد أبيه، ولا أعظم من فرح الأب بنجاح ابنه». أذكر عام 2003، أول مرة نُشر اسمى على مقال، كان جلال عامر فرحاً وكأن اسمه هو الذى قد نُشر فى أكبر جريدة عالمية.

وقبل رحيله بثلاثة أيام، وقبل ساعات من دخوله المستشفى، دار بيننا آخر حوار، تنبأ لى بما أنا فيه وما لم يحدث بعد، وقال لى جملة عابرة عن نفسه: «وبكرة تعرفوا قيمة الراجل العجوز أبوشعر أبيض»!، لم أكن أعرف أن «بكرة» هذا سيكون بكرة بالمعنى الحرفى للكلمة! قلت له مبتسماً: «قيمتك معروفة يا جميل»، لكن أختى ريهام اجتذبت طرف الحديث وقالت: «ربنا يخليك لينا».. بعد أيام من الرحيل تذكرنا هذا النقاش وبكينا كثيراً.

الآن يا صديقى الغالى اختصر لى اسمك وتعاليمك سنوات، وتم وضعى على الطريق وأصبح لى مكان على الخريطة. ودائماً ما كنت تقول إنك بذرة تموت من أجل نمو الشجرة، فأرجو أن تكون سعيداً بفروع شجرتك المثمرة. ورغم أنك علمتنى ودربتنى على أصول الكتابة وأسرارها، أجد نفسى عاجزاً عن وصفك.

يوماً ما قال أحد أبناء الرئيس الأمريكى تيودور روزفلت واصفاً أباه: «كان أبى يريد أن يكون العروس فى كل زفاف والجثمان فى كل جنازة!!». أما جلال عامر فكان يتبع الحكمة القائلة: «إذا أردت أن تكون أولاً فكن آخراً».. صديقى الغالى نحن سنذكرك دائماً فأرجو ألا تنسانا.

رامى جلال عامر

-------------------------------------------------------- 

صباحك جميل

على أنغام الأغانى المفضلة لنا، وفى المكان نفسه الذى شهد أحاديثنا وامتلأ من صوتك العذب، وعلى ضوء أفكارك وكلماتك أكتب إليك.. فى البدء كان يجب أن أقرأ كل كتب العشق لأتحدث عنك، ولكن حتى تلك الكتب لا تكفى.

حبيبى مر 11 عاماً على رحلتك الطويلة التى بدأت مبكراً ودون سابق إنذار، ما زلنا معاً رغم اختلاف المكان.. أيدينا متشابكة ومصيرنا واحد وحياتنا واحدة.. فالموت لا يقوى على الحياة، فالموت حلقة تفصل بين حياة وحياة، والحب عنوانك، والموت لا يعرف للحب طريقاً.. ما أجمل قلبك النقى وقيمك الإنسانية النبيلة، فالذين يزرعون بالدموع الابتهاج يحصدون، وكم رأيت يا أبى من عيون أحباء لك ولفكرك وسمعت دعواتهم لك.. فأحباؤك يستمدون الحب منك لتكتمل حياتهم دون ألم.

«يا بختك يا مصر عشاقك كتير.. يا بخت جلال عامر بيكى ويا بختك بيه».. أسمع صوتك الجميل وهو يقول ويؤكد بقلب العاشق الطاهر: «مصر هتكسبهم».. حبيبتك ستنتصر رغم كل شىء، والسر قلوب عشاقها.. بابا كل صباح تهمس لى بأجمل تحية للصباح، اسمح لى بأن أقولها الآن لك.. بابا جلال عامر صباحك جميل.

رانيا جلال عامر

------------------------------------------------------------  

موعد الرحيل

الموت لا يؤذى الموتى بقدر ما يؤلم الأحياء، وبقدر ما تألمت على رحيل أبى إلا أننى أدركت الآن الحكمة فى اختيار موعد الرحيل، فالرجل الذى نشأ مع ثورة «يوليو» وحارب من أجلها فى «أكتوبر» رأى ثمارهما «الثورة والحرب» تذهب لمن لا يستحق، وعندما جاءت ثورة «يناير» لتجدد الأمل بداخله رأى نتائجها مغايرة لمطالبها ورأى انتشار الجماعات المتطرفة التى لا ترحم أحداً من «التكفير» إلا إذا حرم نفسه من «التفكير».

وأصبح «حسن بن البنا» أقرب إلى قلبه من «الحسن بن على»، و«محمد بن عبدالوهاب» أقرب إلى عقله من «محمد بن عبدالله»، فرحل بعد أن وصل له معنى كلمة «محمود درويش»: «عام يذهب وآخر يأتى وكل شىء فيك يزداد سوءاً يا وطنى».. رحل حزيناً بعد أن رأى المصريين يتقاتلون، وكان آخر ما سمعته منه: «المصريين بيموتوا بعض».

سنظل نتذكر «جلال عامر» ليس لأنه الكاتب الأوحد أو الأغزر إنتاجاً، ولكن لأنه يجسد معنى «البطولة».. وأحياناً كلمة النهاية تكون كافية لتلخيص القصة وشرح شخصية صاحبها، ففى رثاء نفسه قال الفنان الكوميدى نجيب الريحانى مخاطباً جمهوره: «مات الريحانى.. فى 60 ألف سلامة»، وقال الكاتب الساخر محمد عفيفى مخاطباً قراءه: «إذا أحزنتك وفاتى، فلا مانع من أن تحزن بعض الشىء، ولكن أرجو ألا تحزن كثيراً».

وعلى مدفن «عبدالحليم» توجد عبارات من أشهر أغانيه، وفى مدخل مدفن «أم كلثوم» توجد قصيدة من غنائها لأحمد رامى. ويمكن أن تفهم شخصية «جلال عامر» ومدى بساطته واقترابه من الناس بمجرد زيارتك لقبره، فوسط آلاف المدافن يقع مدفن متواضع كُتب عليه: «لكننى صعلوك، عابر سبيل، ابن الحارة المصرية، ليس لى صاحب، لذلك كما ظهرت فجأة سوف أختفى فجأة، فحاول تفتكرنى».. لن ننساك.

راجى جلال عامر 

---------------------------------------------------------- 

«اللى فكر ماماتش»

عزيزى جلجل.. على مدار سنوات تكفلت جموع محبيك بمشاركتى أنا وإخوتى حزننا.. وتعرضت لمواقف حب مدهشة وكثيرة فقط لأننى ابنتك.. سمعت كثيراً كلمة «خدى بالك انتى مش بنته لوحده»، كما لمست فى تعاملهم الغيرة منى على محبوبهم جلال عامر الذى أتناسى نفسى أحياناً وأتحدث باسمه فأثير غيرتهم وأسعد كثيراً بتلك الغيرة.. مواقف كثيرة لا تسعنى المساحة لذكرها، منها سائق التاكسى الفقير البسيط الذى رفض أن أدفع الأجرة لأننى ابنتك، وحين أصررت قال لى: «انزلى يا بنت الغالى، انتى كده بتشتمينى».. وحمّلنى الكثيرون رسائل أمانة لأخبرك بها يوم أزورك إيماناً منهم بأنك تستمع.. اللى كتب وفكّر وناضل وخلّف ماماتش يا عم جلال.

ريهام جلال عامر

---------------------------------------- 

مبادئه

يبقى من عشق الوطن خريطة لا تتغير وتاريخ لا يموت.. فعبر التاريخ يموت المواطن من أجل الوطن وليس العكس.

لا نختلف مع الوطن، ونصيحة أخ: لا تقف مع «ميليشيا» ضد وطنك حتى لو كان الوطن مجرد مكان ننام على رصيفه ليلاً.

المجتمعات لا تتقدم بالموظفين الذين يخرجون فى موعد الأوتوبيس، لكنها تتقدم بالمجانين الذين يخرجون عن السائد ويعملون على تغييره.

مع بدايات القرن التاسع عشر بدأت مصر نهضتها مع اليابان، ثم حدث أن اليابان انضربت بالقنابل الذرية، ومصر انضربت بالتعصب الدينى، فحدث الفارق 

------------------------------------------------- 

 سخريته من نفسه

عاصمة العالم هى المدينة التى تسكن فيها حبيبتى.

كان نفسى أطلع محلل استراتيجى لكن أهلى ضغطوا علىّ لأستكمل تعليمى.

عندما تتحدث حضرتك عن المُثل العليا مع جائع سوف يطلب منك أن تشويها وتكتر الفلفل.

أنا لا أصبغ شعرى ولا أعالج التجاعيد، لكننى أقاوم الزمن بما هو أكثر من ذلك، فكلما مرضت صممت على الذهاب لطبيب أطفال.

------------------------------------------------------- 

 حِكمه

كل نصاب يلزمه طماع، وكل دجال يلزمه جاهل.

مجتمع لا يهمه الجائع إلا إذا كان ناخباً، ولا يهمه العارى إلا إذا كان امرأة.

حاولوا أن تطفئوا حرائق الجهل ثم تضيئوا أنوار العلم.. هذا هو الداء والدواء.

مشكلة المصريين الكبرى أنهم يعيشون فى مكان واحد، لكنهم لا يعيشون فى زمان واحد.

وتمر الأعوام ليبيضّ فينا ما كان يجب أن يسودّ «شعرنا»، ويسودّ فينا ما كان يجب أن يبيضّ «مشاعرنا».

---------------------------------------------------- 

كلمات لاذعة

فى مصر كل واحد فى حال اللى جنبه.

نصيحة كل سنة فى رمضان لا تكن ملتوياً كالكنافة ولا منطوياً كالقطايف.

كان العالم محتملاً حتى اخترع «نوبل» البارود، وكان العالم هادئاً حتى اكتشف «كولومبوس» أمريكا.

فى العالم الثالث يمتلك الحاكم حكمة لقمان ويمتلك رجل الأعمال مال قارون ويمتلك الشعب صبر أيوب.

 

 


مواضيع متعلقة