سد النهضة والكونجرس الأمريكى (3-3)

استعرضنا فى مقالين سابقين أهم ما جاء فى شهادة الدكتور بول جيروم سوليفان، الأستاذ بجامعة الدفاع الوطنى الأمريكية، أمام إحدى لجان الكونجرس الأمريكى بتاريخ 18 نوفمبر 2014. وكانت الشهادة حول أزمة سد النهضة، ومواقف مصر والسودان وإثيوبيا من السد، والتداعيات الاقتصادية والسياسية والأمنية لسد النهضة، وأخيراً السيناريوهات المحتملة للدور الأمريكى فى حل هذه الأزمة. والجدير بالذكر أنه بعد انتهائه من عرض شهادته، قام الدكتور سوليفان بالرد على الاستفسارات والأسئلة. وكانت أهم هذه الأسئلة تدور حول إمكانية أن تكون تحلية مياه البحر هى الحل لتعويض العجز المتوقع فى حصة مصر المائية نتيجة بناء هذا السد، وأيضاً عن جدوى إطالة فترة تخزين المياه أمام السد لمنع أو تقليل الآثار السلبية على مصر. وكانت إجابة دكتور سوليفان عن التساؤل الأول أن تحلية مياه البحر ليست هى الحل لأسباب مختلفة منها التكاليف العالية، ولنقص الطاقة المتوفرة سواء من الغاز أو البترول، ولمحدودية إنتاج وحدات التحلية من المياه، ولبعد معظم المدن الرئيسية فى مصر عن البحر. أمّا إجابته عن التساؤل الثانى فكانت أنّ تقليل الأضرار على مصر أثناء ملء السد بالمياه، يتطلب أن يكون التخزين على سنوات عديدة جداً والتى غالباً لن توافق إثيوبيا عليها لأنّها ستفقد السد فوائده وجدواه الاقتصادية. وشرح دكتور سوليفان أن الأضرار على مصر من السد لا تنحصر فقط فى سنوات ملء السد، بل ممتدة حتّى أثناء فترة التشغيل خاصة فى سنوات الجفاف. وأعطى مثالاً على ذلك بفترة الثمانينات من القرن الماضى عندما تعرضت مصر لعشر سنوات من الجفاف أدت إلى تفريغ معظم المخزون المائى للسد العالى وكادت التوربينات أن تتوقف، وأن الوضع سيكون أصعب بكثير فى وجود سد النهضة. وأكد أن استخدام مياه سد النهضة للزراعة سيضاعف من آثاره السلبية على مصر. ثم شرح دكتور سوليفان أن السد يمثل محبساً على المياه الواردة إلى مصر، وهذا المحبس سيتم إغلاقه أو فتحه حسب الإرادة الإثيوبية. وبعد هذا العرض لأهم ما جاء فى هذه الشهادة التاريخية، أود أن أشير إلى نقطتين رئيسيتين، الأولى عن الدراية الكبيرة للدكتور سوليفان بأبعاد أزمة سد النهضة التى يجهلها بعض المتشدقين فى مصر. والثانية عن توقيت هذه الشهادة، ولماذا اهتم الكونجرس الأمريكى فى هذا التوقيت فقط بأزمة سد النهضة، بالرغم من أن الأزمة بدأت منذ أربع سنوات. قد يكون السبب أنّ الولايات المتحدة الأمريكية كانت تبارك سد النهضة الإثيوبى، وأنّها لم تهتم بالأزمة إلا بعد أن تغير الوضع الداخلى المصرى، وأصبحت تخشى أن تقوم مصر بردود فعل قد تؤثر على مصالحها فى المنطقة. وعموماً يجب عدم إغفال أهمية شهادة الدكتور سوليفان لأنّها تعكس الرؤية الأمريكية عن أزمة سد النهضة التى يمكن تلخيصها فى النقاط الرئيسية التالية: 1- أن سد النهضة مبالغ فى حجمه، وكفاءته الكهربية متدنية، وتمويل السدود الإثيوبية يتم من خلال قروض خارجية وسندات داخلية من الصعب على إثيوبيا تسديد فوائدها وأقساطها من مواردها المالية المحدودة. 2- السياسة الإثيوبية لبناء السدود الكبرى على الأنهار النابعة من أراضيها تتم فى سرية تامة وبدراسات منقوصة، وأنها لها آثار سلبية عديدة على دول المصب، بالرغم من أنها لا تحتاج هذه السدود الضخمة لما لديها من مصادر أخرى ضخمة للطاقة مثل الطاقة الحرارية الأرضية والطاقة الشمسية وطاقة الرياح. 3- إن السدود الإثيوبية الضخمة سوف تضاعف من الآثار السلبية للتغيرات المناخية فى المنطقة، وسوف تؤدى إلى نقص أمطار الهضبة الإثيوبية وكينيا والصومال وإريتريا. 4- إن أخطار سد النهضة على مصر لا تنحصر فقط فى سنوات ملء الخزان بل ممتدة بطول عمر السد، وخاصة أثناء سنوات الجفاف، وأن هذه الأخطار سوف تتضاعف إذا ما تم استخدام مياه السد فى الزراعة، وأنّ إثيوبيا سوف تقوم بالفعل بنقل مياه مخزون سد النهضة إلى مناطق تصلح للزراعة. 5- إن سكان إثيوبيا ينتشرون فى تجمعات صغيرة وعلى شكل قرى متفرقة فى مساحات واسعة من البلاد، وأن توفير الكهرباء لهم يتطلب سدوداً صغيرة على الأنهار الفرعية، أمّا سياسة إنشاء السدود الكبرى لتزويد المدن الرئيسية بالكهرباء سوف يؤدى إلى هجرة الريف إلى المدينة، مما يؤثر سلباً على الاستقرار الاجتماعى والسياسى بالبلاد. 6- إن مصر لها وجود ملموس فى شرق أفريقيا وتستطيع بشكل غير مباشر أن تثير متاعب عديدة فى الداخل الإثيوبى. 7- إنّ مصر قد توافق على سد النهضة إذا ما حصلت على بعض التنازلات من الجانب الإثيوبى. ولكن من الملاحظ أن دكتور سوليفان لم يتطرق إلى الحل البديهى وهو تصغير حجم سد النهضة، بالرغم من أنه أشار بنفسه إلى أن السد مبالغ فى حجمه. 8- السدود الإثيوبية ستزيد من صعوبة الوضع المائى فى مصر، وأنه من المتوقع استغلال هذا الموقف من دولة جنوب السودان ودول أخرى فى الحوض لبيع المياه إلى مصر. وهذه الفرضية، إن صحت، توضح أهداف المخطط الإثيوبى الغربى لهذه السدود الضخمة، من تحكم دول المنبع فى مصر والسودان وخنقهما مائياً، وتخييرهما ما بين شراء المياه والكهرباء أو الموت عطشاً. 9- محكمة العدل الدولية لا تملك قوة تجبر الدول على تنفيذ أحكامها. وأنه فى حالة لجوء مصر إلى مجلس الأمن، فإن حلفاء إثيوبيا فى المجلس قد يمنعون صدور أى قرار يدينها. وليس واضحاً من كلام دكتور سوليفان من هم حلفاء إثيوبيا هل الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية، أم الصين، أم هم جميعاً. وهذه الكلمات بالرغم من قسوتها إلا أنها تعكس حقيقة العالم الذى نعيش فيه، حيث نرى إثيوبيا لا تنفذ حكم محكمة العدل الدولية الخاص بترسيم الحدود مع إريتريا، ونراها مستمرة فى بناء سلسلة سدود جيب الخمسة، بالرغم من احتجاجات وشكاوى الدولة الكينية. إن معظم ما جاء فى شهادة دكتور سوليفان يتفق بشكل كبير مع نتائج وتوصيات الدراسات المصرية، التى توضح بجلاء أننا أصبحنا فى حاجة ملحة للتحرك الفورى نحو حل حقيقى لهذه الأزمة قبل أن تكتمل حلقات الحصار المائى على مصر. * وزير الموارد المائية والرى الأسبق