إرادة مصر تتحدى موازين القوى العالمية
اختلف أصحاب الرأى من سياسيين ومفكرين واقتصاديين حول دور الموارد والمواد الخام فى نهضة أى مجتمع إنتاجى، حيث لاحظنا عبر التاريخ أن بريطانيا قبل حروبها الاستعمارية استطاعت أن تتقدم اقتصادياً فى العصور الوسطى بسبب استغلالها لإنتاجها الضخم من الفحم والحديد بعد اكتشاف الآلة البخارية واتجهت ناحية العمل الاستعمارى بشكل كثيف لاستغلال المواد الخام والمنتجات الزراعية فى أفريقيا والوطن العربى.
وحسب الإحصائيات العلمية من المتعارف عليه أن أوروبا منطقة غير كثيفة الموارد مقارنة بأفريقيا والأمريكيتين، كما أن الإمارات الأوروبية كانت متباعدة فى العصور الوسطى ولم يكن هناك تعاون حقيقى بين هذه الإمارات بسبب الحروب الدينية والحكم الكنسى، وهو الأمر الذى جعل دول أوروبا فى القرون الوسطى وبالأخص برجوازيو أوروبا أو التجار يعملون على خلق عملية التصنيع.
وذلك لتحويل المواد الخام فى مناطقهم ومناطق أخرى فى العالم لمنتجات يقومون ببيعها للدول والمناطق كثيفة الموارد وعلى رأسها أفريقيا، وطالما الحاجة أم الاختراع فدفعتهم الحاجة للتفكير بشكل عميق للغاية لإنتاج الآلة البخارية فى عصر الثورة الصناعية الأولى وكانت بريطانيا الدولة الرائدة التى نقلت التصنيع لكل أنحاء أوروبا فيما بعد.
وكان المغامرون الأوروبيون يبحثون عن المناطق كثيفة الموارد لاستغلال ماكيناتهم فى التصنيع الكثيف ولهذا ذهبوا إلى الأمريكيتين واختطفوا الأفارقة ليعملوا كعبيد ثم أرقاء فى أمريكا الشمالية، وبالطبع هؤلاء المغامرون كان من بينهم تجار برجوازيون شاركوا فى الثورة ضد الإقطاع واتحدوا مع الفلاسفة فى أوروبا الذين دعوا للحرية والقضاء على الدولة الدينية وسيطرة الكنيسة على مقاليد الحكم.
وحرضوا الشعب على وضع الدساتير ليضعوا عقداً اجتماعياً يحمى الشعب من الحاكم أو الحكومة، حسب النظام الحاكم، ويحقق مصالح الدولة من خلال احترام الشعب للقانون والسلطات الثلاث، فنقل هؤلاء هذه الأفكار لأمريكا بعد نضال طويل استمر لسنوات طويلة وتحرر العبيد وشرعت الولايات المتحدة الأمريكية فى وضع دستورها وقوانينها.
وللأسف استمرت الدول الأفريقية والعربية وبعض الدول الشرق آسيوية بسبب كثافة الموارد الزراعية وغيرها من الموارد ليست متحمسة للصناعة، وأكثر اعتماداً على الزراعة والفائض الكبير لدى الحكام وليس الشعوب بكل تأكيد الأمر الذى جعلهم أكثر اعتماداً على منتجات أوروبا، واستغل الأوروبيون فى القرن السادس والسابع والثامن والتاسع عشر والعشرين هذه الحالة واحتلوا أجزاء كبيرة من أفريقيا والدول العربية والأمريكتين ودولاً آسيوية مثل الهند والصين.
واستولى المغامرون الأمريكان على العديد من المستعمرات الدولية ولكثرة موارد الولايات المتحدة الأمريكية وقوتها العسكرية والاقتصادية والسياسية قرب منتصف القرن العشرين استطاعت أن ترغم بريطانيا العظمى وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية على الخروج من العديد من المستعمرات وظلت تنافس الاتحاد السوفيتى إلى أن هزمته وأصبحت أوراق اللعبة العالمية فى يد أمريكا حتى وقت قريب.
كما تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية فى الحربين العالميتين الأولى والثانية فى اللحظات الأخيرة للقضاء على الإمبراطورية الألمانية الشابة وحلفائها ووضعت مع الحلفاء قوانين لحكم العالم بشروط رأسمالية واضحة وكانت وما زالت صاحبة الكلمة العليا فى الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولى والبنك الدولى وأغلب المنظمات العالمية.
وكانت أمريكا تستهدف بشكل واضح النفوذ السوفيتى وعملت على تحييد الإمبراطورية الشيوعية الصينية الناشئة قدر الإمكان، ففرضت نفوذها على اليابان بعد الإجهاز عليها بشكل غير أخلاقى بالسلاح النووى وتدمير الجيش اليابانى وبسط نفوذها شيئاً فشيئاً على جزء كبير فى شرق آسيا، كما دعمت الجماعات الإسلامية فى أفغانستان ودول عربية كثيرة لمحاصرة الشيوعية بالفكر الإرهابى.
ومنذ منتصف القرن العشرين عملت الولايات المتحدة الأمريكية على تدعيم الدول التابعة لسياساتها ومنها اليابان وكوريا الجنوبية وباكستان فى مواجهة الصين وروسيا والهند وأمدتهم بأحدث النظم التكنولوجية فى العالم، وهو الأمر الذى يفسر كيف استطاعت اليابان محدودة الموارد أن تتحول إلى دولة من أقوى الدول فى العالم صناعياً وتكنولوجياً بعد سيطرة الجيش الأمريكى على جيشها، وفيما بعد كوريا الجنوبية التى تعد من أغنى الدول فى العالم وتمتلك قدرات صناعية مهولة بينما جارتها كوريا الشمالية تتفوق فقط على المستوى العسكرى بينما الوضع الداخلى اقتصادياً وتكنولوجياً وإنسانياً فى غاية السوء.
وهكذا فعلت مع إسرائيل فى منطقة الشرق الأوسط فى مواجهة العرب ورسمت الخطة لإسرائيل لغزو أفريقيا وتحقيق مصالح أمريكا هناك ومحاصرة الشيوعية فى أفريقيا وإفسادها حتى تظل راكعة لموازين القوى العالمية فبعض الدول الأفريقية تطبع لها فرنسا النقود وتتحكم فى قرارها السياسى ودول أخرى تحت سيطرة أمريكية وبريطانية تماماً.
وذلك حسب التوافق بين أمريكا والدول الأوروبية فى أفريقيا، واستطاعت أمريكا قبل نهاية القرن العشرين بعشر سنوات أن تقضى على الاتحاد السوفيتى وتوقف تهديد دول أمريكا الجنوبية لها التى كانت مدعومة من الاتحاد السوفيتى، وإفقار هذه الدول بكل الطرق عن طريق دعم الفاسدين فيها ومحاصرتها اقتصادياً ومقاومة كل محاولة للتقدم التكنولوجى والصناعى فى دول أمريكا الجنوبية وهكذا فعلت فى أغلب المناطق العربية والأفريقية ونشرت ثقافتها وأفكارها وسياساتها الاقتصادية عبر منظمة التجارة العالمية والجات.
وفى ظنى أن ضعف الموارد لم يكن عائقاً أمام تقدم الأوروبيين وكذلك اليابانيين بل إن سيطرة البرجوازيين الأوروبيين والأمريكان لنصف قرن قبل نهاية القرن العشرين، جعلهم أكثر قدرة على توزيع حصة الإنتاج الصناعى على حلفاء أمريكا على مستوى العالم واحتكار النظم التكنولوجية وفرض سياساتهم على الدول الفقيرة حتى لو كانت غنية بالموارد.
فى ظل هذا الصراع العالمى والسيطرة الأمريكية على العالم كانت الصين تبنى نفسها من الداخل وتقاوم كل أشكال التخلف والرجعية وتبنى منظومة وقلاعاً صناعية حديثة وتعتمد على مقومات الثورة الصناعية الثالثة والرابعة، فهزموا الأفيون بعد حرب قاسية ومريرة ودعموا البرجوازية الصغيرة والمتوسطة وأسسوا مناطق صناعية فى كل أنحاء الصين وأسسوا خصوصية صينية تتجاوز الأيديولوجية الكلاسيكية، وفتحت مقاطعاتها للصناعات الأوروبية والأمريكية ووفرت لأغنياء هذه الدول مناخاً صناعياً جيداً وعمالة رخيصة وقوانين تساعد فى نمو الاستثمارات.
وعمل ذراع الدولة الصينية على إنتاج العديد من المنتجات فى كافة المناحى التكنولوجية والعسكرية والصناعية، ولم تكن الهند غائبة عن كل ذلك فعملوا هم أيضاً على تطوير أنفسهم صناعياً وتكنولوجياً، واستطاعت روسيا من خلال حلم القومية الروسى أن تعود مرة أخرى منافساً قوياً لدول أوروبا العجوز.
وبشكل عملى أصبحت دول الشرق ومنها «الصين والهند والطفل المدلل كيم زعيم كوريا الشمالية» ومحاولات صينية لاجتذاب روسيا يعملون بشكل علنى على صناعة عالم جديد متعدد الأقطاب تبحث من خلاله دول أوروبا العجوز عن محاولة للعودة ونشهد تطوراً بطيئاً فى المشهد الأفريقى، مع حالة جمود فى الوضع العربى وانقسام مرير حدث فى الوطن العربى جعل الجامعة العربية أقل قدرة على صياغة خطاب أو مشروع عربى متماسك بعض الشىء وليس موحداً فهو لم يكن كذلك فى حقيقة الأمر فى عز القومية العربية.
ونجت مصر من مصير أسود حاولت كل الدول الكبرى أن تفرضه على مصر ولكن شعبها وجيشها الشريف والمناضل جعلها تعود مرة أخرى متماسكة ونفضت من على جسدها ثوب التقسيم والفتنة الطائفية لأسباب لا تسمح مساحة المقال لسردها.
عاشت مصر سنوات محرومة من حقها فى التصنيع وساهم فى ذلك الكومبرادور أو رجال الأعمال الاستهلاكيون والريعيون وهم وكلاء الشركات العالمية وتدخلت الدول الكبرى لوقف مشروع مصر التنموى وحدث ذلك بداية من نكسة 1967، واتجهت مصر صوب ثقافة الاستهلاك وهجر الفلاح أرضه وعانى العامل فى مصنعه.
وانتشرت جماعات الدم فى المساجد والزوايا إلى أن أقنعوا الشعب عن طريق الفكر الوهابى والعنف فى الجامعة والغزو الثقافى الممنهج بداية من مصطفى محمود والشعراوى وكشك ونهاية بعمرو خالد وباقى الصبيان، واستطاعت جماعة الإخوان الإرهابية أن تمزق النسيج الفكرى والحضارى المصرى خلال سنوات طويلة إلى أن نشط المخزون الحضارى والوسطى وثار ثورته فى 30 يونيو لتعود مصر قائدة لمشروع التنوير ومقاومة للفكر الإرهابى فى المنطقة العربية بل والعالم وساهم عودة الدور الريادى المصرى المتسلح بشعب رافض لحكم جماعة إرهابية إلى نقل رياح التغيير إلى دول الخليج وفرض شروط مصر فى ليبيا الممزقة وهزيمة المشروع التركى المدعوم أمريكياً فى سوريا ومصر والعراق.
وعلى حد علمى أن مصر دولة ليست كثيفة الموارد مثل أمريكا وجيران مصر الأفارقة ولكن هذا لا يمنعها من أن تتبنى مشروعاً زراعياً وصناعياً إنتاجياً يجعلها قادرة على تحول مصر لمجتمع إنتاجى وهذا الأخير سيجعلنا نقاوم كل سلبياتنا، فالمجتمع الإنتاجى يحاصر الزيادة السكانية عن طريق العمل ويغير من السلوكيات الرافضة لدولة القانون ويجعل الريف والصعيد أكثر تقبلاً لفكرة المساواة بين المرأة والرجل ويدفع المجتمع المصرى دفعاً نحو التقدم الفكرى والحداثى فى مواجهة العادات والتقاليد البالية.
وكلى أمل أن سلطة 30 يونيو تحقق ذلك ولكن علينا أن نأخذ فى الحسبان أن موازين القوى العالمية عن طريق وكلائها فى الداخل من المحتكرين الكبار والمتهربين من دفع الضرائب والمتحكمين فى عملية استيراد السلع الاستراتيجية ليس من مصلحتهم الاتجاه نحو الإنتاج الزراعى والصناعى الكثيف، فبالرغم من أن الأرز لا يدخل فيه سلع وسيطة إلا أن المحتكرين يحركون سعره لأعلى عن طريق الاحتكارات وتقاوم الشركات متعددة الجنسيات شرقاً وغرباً بحث مصر عن مواد خام لتحويلها لمنتجات نهائية، وتقاوم محاولات مصر لفتح خطوط إنتاج فى العديد من الأسواق العالمية وتستخدم القوى العالمية خاصة الغربية وسائل إعلام عديدة ومواقع التواصل لبث شرها عن طريق الحرب النفسية.
وبنظرة سريعة نجحت مصر التى فرضت جيشها فى سيناء مخالفة لشروط كامب ديفيد وطهّرت أرضَنا الغالية من الإرهاب أن تحقق اكتفاء ذاتياً من الغازات الطبية من خلال مصنع أبورواش وأن تؤمن احتياجها من الأسمنت فى مجمع مصانع العين السخنة حتى لا تقاومها الدول الكبرى فى مشاريعها القومية المعمارية والمدن الجديدة، وأن تكثف من الصناعات التحويلية لدفع عجلة الإنتاج الصناعى التحويلى لتقليل الاعتماد على الاستيراد والدولار.
ويبقى لاستكمال مسيرة التنمية أن تدعم مصر المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر وألا تسمح للشركات الريعية أن تستولى على 80% من القروض الميسرة لصغار المصنعين، وأن تعمل على دعم صناعات كثيرة ومنها صناعة السيارات والأجهزة التكنولوجية وتعمل على زيادة نسبة المكون المحلى فى الصناعة وتحويل كل مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسات التعليمية إلى مؤسسات إنتاجية صناعية، وأن تدعم الفلاح فى دورته الزراعية حتى نعود مرة أخرى لمجتمع قادر على إنتاج محاصيله الأساسية من «قمح وعدس وفول وزيت وذرة».
مصر المناضلة خلال 8 سنوات مضت تتجه صوب التنمية الثقافية عن طريق المسرح المدرسى وتنمية المسارح وقصور الثقافة، كما تعمل على مشروع تأمين صحى شامل ومنظومة صحية أفضل من الماضى بكثير وقضت على فيرس «سى» وساعدت الشباب على إيجاد شقق سكنية بأسعار معقولة عن طريق الإسكان الاجتماعى والمتوسط وقضت على أغلب العشوائيات وتنشر الحياة الكريمة فى الريف وكل ذلك فى ظل انتشار فيروس كورونا واستنهاض حرب عالمية ثالثة وجهها الظاهر روسيا وأوكرانيا وتم التخطيط لها من القوى الغربية لوقف نمو كل الدول التى تغرد خارج السرب الأمريكى ولوقف نشاط التنين الصينى.
وعلى مصر أن تقاوم محاصرة القوى الغربية لها على مستوى التصنيع والزراعة وحتى السياحة دون أن تعطى فرصة لقوى الشرق أن تتحكم فى قرارها السياسى وربما ما أطرحه معادلة صعبة ولكنى كلى ثقة أن مصر ستستفيد من المجتمع متعدد الأقطاب ولدى سلطة 30 يونيو وقائدها الرئيس عبدالفتاح السيسى خطة ورؤية طموحة لتحول مصر لمجتمع إنتاجى صناعى حداثى.