حدث بعد «صلاة الجمعة»

أوشكت أن أُنهى صلاة الجمعة فى أحد الجوامع الصغيرة بحى المعادى، وقبل أن أكمل (التسليم) قطع أحد المصلين الهدوء والحالة الطيبة التى ظللتنى وولداى الصغيرين وجموع المصلين بدفء روحى رغم برودة الجو، كان يجلس أمامى وختم صلاته متلهفاً ثم بدأ يصرخ ويتوسل ويرجو المصلين أن يساعدوه، فهمت من كلامه أن عليه إيجاراً (مكسوراً) قيمته ألف جنيه.. وبصوت مبحوح ظل يشرح وينوح، قال إنه سيتم طرده وأولاده من الشقة إلى الشارع فى هذه الأيام الباردة.. وكى يقطع على الناس مظنة التواكل، خاصة وهو يبدو شاباً (فى منتصف الثلاثينات من عمره)، فأوضح فى صراخه أنه لا يقدر على العمل، وصلى جالساً على كرسى لأن ساقه مكسورة أو مصابة، لم أفهم بعد تداخل صراخه مع بكائه واستمراره فى التوسّل ليساعده المصلون من طيب صدقاتهم فى هذا اليوم المفترج.. لكننى لم ألمح حتى ابتعدت أياً منهم قد تعاطف معه.حالة الهلع التى أصابت المصلين جعلتهم يسرعون فى الانصراف دون ختم الصلاة بالتسبيح أو صلاة السنة، أغلب المصلين فر مبتعداً، ربما خشى بعضهم أن يمر يوماً بالمصير نفسه، وهؤلاء بالطبع ليس لديهم ما يساعدون به، فهم ممن وضعتهم الأزمة الاقتصادية العالمية على حافة الهاوية، أما من يملكون القدرة على المساعدة أظن أنهم انزعجوا مثلى من سلوك الرجل، فلا تزال نظرتنا كلاسيكية للفقير وهى مستلهمة بالطبع من ديننا الحنيف، فقراء وتحسبهم أغنياء من التعفف، كما ورد فى سورة البقرة: «لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِى الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ».فكرت فى العودة إلى الرجل المحتاج أساعده بما تيسر كما عودت ولداى بعد صلاة الجمعة، فما أجمل أن تختم صلاتك ببعض الصدقات، لكن صخب السائل أصاب الصغيرين بالذعر فاندفعا مبتعدين وأنا خلفهما ألهث لألحق بهما، حائراً لا أدرى صحة ما فعلته، متذكراً ما تكرر معنا أكثر من مرة فى العامين الأخيرين، اللذين ابتلينا فيهما بجائحة كورونا، منها ما حصل ذات مرة ونحن داخل السيارة، وإذا بأحدهم يدس وجهه من نافذتها يتوسل طالباً المساعدة، وقتها كنا فى أوج الإجراءات الاحترازية والتباعد الاجتماعى، وكان السائل بالطبع لا يرتدى ماسكاً للوجه، فأغلقت النافذة فى وجهه خوفاً على أسرتى، وأشرت إليه بالابتعاد، وتحركت مسرعاً بسيارتى، فعاتبتنى زوجتى مردّدة الآية الكريمة من سورة الضحى: «وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ».تشغلنى كثيراً الصدقات وأموالها ومستحقيها، وتحرى الصدق فيمن نبحث عنه لنعطيه، ومن نمنع عنه لشكنا فى أحقيته، يحركنا فى ذلك الأمر الإلهى المتكرّر فى أكثر من موضع بالقرآن الكريم، ومنها قوله تعالى فى سورة الذاريات: «وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»، كما يشغلنى أيضاً الصراع المؤسسى (الممنهج) على أموال الصدقات، والذى كتبت عنه أكثر من مرة فى صحف ومواقع مصرية وعربية، وخصّصت له فصلاً فى كتابى «مشكلة الإسلام» بعنوان «الأناة فى تصريف أموال الزكاة»، خلصت فيه إلى: «أن على كل متبرع بالصدقات تأدية لفريضة الزكاة (أو تطوُّع الصدقة)، أن يبذلَ قدراً من الجهد فى توصيل هذه الأموال إلى مستحقيها، فليس الغَرَض دفعَ المال فقط، ولكنّ هناك جزءاً تربويّاً شرعه الله فى ركن «الزكاة»، الذى هو من أركان الإسلام الخمسةِ، وهذا الجزء لا يتحقَّق إلا بالسعى والاجتهاد للوصول إلى مستحقيها، والتعامل معهم وإدراك حقيقة ظروفهم وأشكال معاناتهم، والتحرِّى عن ذلك بالاتصال والتواصل المستمر معهم، إن هذه العلاقة من شأنها أن تصنع الكثير فى نفوسنا، سواء عند الغَنِىِّ أو الفقير».ملحوظة: مقالى لا علاقة له بالضجة المثارة حول «مستشفى سرطان الأطفال 57357»، فالأمر أعقد وأكبر من ذلك، وأمانة الكلمة تستدعى منا الحكمة فى ما نكتبه حول هذا الموضوع الشائك، حتى نعطى مساحة للعقلاء فى بلدنا بالتدخل المحمود.