مسألة الامتناع عن دفع مستحقات الدولة

حسين القاضى

حسين القاضى

كاتب صحفي

كان أحد علماء قريتنا فى الصعيد واسمه الأستاذ محمد إبراهيم على حسن مديراً لإحدى المدارس، وذهب إلى الإدارة التعليمية، وهو فى الطريق حدث أن صديقاً له دفع له الأُجرة، فرجع فى اليوم التالى وشطب الخانة الخاصة ببدل الانتقال، إذ اعتبر أن صديقه دفع له الأجرة بدلاً من الدولة، فرفض أن يتقاضى بدل انتقال!!وحدث هذا الموقف فى الورع والحرص على المال العام مع العالم الشيخ محمد الصادق خليفة حجازى الخلوتى، من قرية المحاميد بأرمنت قنا، فعندما كان يسجل انتقاله بين المعاهد الأزهرية للتفتيش عليها كان يكتب: انتقلتُ من معهد كذا إلى معهد كذا سيراً على الأقدام، أو دفع لى الأجرة بعض الأصدقاء، أو انتقلت راكباً على دابة، وذلك حتى لا يأخذ بدل انتقال.

يدعو إعلام جماعات التطرف الدينى لدعوات تحرض على عدم دفع فواتير الكهرباء والمياه، وأوجدوا مخرجاً شرعياً لسرقة المال العام، مع أن المرافق العامة كالمساجد، والحدائق العامة، والمستشفيات، والكهرباء، والمياه، والقطارات، مملوكة للدولة، والدولة فى الإسلام لها شخصية اعتبارية مستقلة، لا علاقة لها بالقائم عليها.

وقد يقال إن فى عدم دفع الفواتير إضعافاً للدولة الظالمة، وهذا ما يفنده الدكتور عثمان عبدالرحيم بما خلاصته، بعد بيان جواز عدم الدفع للعاجز عن ذلك وفق القانون.

أولاً: هذا استيلاء على المال العام بغير حق، وهذا عمر بن عبدالعزيز جاءه أحد الولاة يحدثه عن أمور المسلمين، وكانوا يستضيئون بشمعة، فلما انتهى من الحديث عن أمور المسلمين، وبدأ يسأل عمر عن أحواله، قام عمر فأطفأ الشمعة، فتعجب الوالى من ذلك، فقال له عمر: كنت تسألنى عن أحوال المسلمين وكنت أستضىء بنورهم، وأما الآن فتسألنى عن حالى، فكيف أخبرك عنه على ضوء من مال المسلمين؟!

ثانياً: لأن الامتناع أكل للأموال بالباطل، وهذا حرام، حتى مع الكافر، لأن الشخص قد انتفع بها، والواجب أن يدفع ثمن ما انتفع به لمالكه أو وكيله.

ثالثاً: أن الدولة لها شخصية مستقلة، ولا صلة لها بمن يقوم بحكمها، فإذا علمنا هذا تقرر بالضرورة أن الامتناع عن دفع مستحقات الدولة لن يؤدى إلى زوال النظام، ولكن سيؤدى إلى هدم الدولة.

رابعاً: لأن الامتناع وسيلة محرمة فى ذاتها، والوسيلة فى الشرع لا بد أن تكون شرعية، وإذا قال البعض إن صحة الغاية لا يلزم منها صحة الوسيلة، فذلك متوقف على ألا يكون ضرر الوسيلة المحرمة أقل من مصلحة الغاية المتحققة بها لا أكثر ولا مساوياً، وهذا غير متحقق، فمن يقول من العقلاء إن هدم اقتصاد مصر أقل مفسدة من زوال النظام القائم، أيضاً لقاعدة: الضرر لا يزال بمثله، ولا بأكبر منه، فلو أن واحداً سرق حبلاً، وربط به سفينة فى البحر، فلا يقال إن صاحب الحبل يجوز له نزع حبله، لأنه وقع عليه ضرر حتى لو غرقت السفينة! لأن سرقة الحبل ضرر، وإزالته هنا ضرر أكبر، وقد رأينا شعوباً تعيش فى ظل أنظمة مستبدة، ولكن لم نر شعوباً بلا دولة.

قد يقول شخص أنا سأدفع ولكن بعد زوال السلطة؟ وهو كلام يفتح الباب لفتنة كبيرة، فإذا جاء الحكم للذين يريدونه سيأتى المعارضون ويمتنعون عن دفع مستحقات الدولة، ويرددون نفس الكلام، وتظل الدولة ملعبة فى أيدى الناس، فإذا رضوا دفعوا، وإذا سخطوا لم يدفعوا.