محمد سلطان بين الوفاء والجحود
رحل عن عالمنا آخر جيل الملحنين الكبار الموسيقار محمد سلطان (1937- 2022)، صاحب التاريخ الطويل من الإبداع الموسيقى، رحل بلا ضجيج كما عاش بلا ضجيج، مكتفياً بذكرياته مع الفنانة فايزة أحمد التى ظلت تؤنسه حتى سنواته الأخيرة، ولا أعرف حقيقة إن كانت موهبة سلطان الكبيرة قد انطلقت بزواجه من الراحلة فايزة أحمد صاحبة الصوت النادر، أم أنها احتكرت موهبته طوال سنوات زواجهما واستأثرت بأجمل ألحانه؟
لكن من المؤكد أن محمد سلطان كان فناناً نادراً، ليس فى ألحانه فقط، وإنما فى اكتشافه ورعايته لكثير من المواهب الغنائية والشعرية، مثل الفنانة نادية مصطفى وشيرين عبدالوهاب ومدحت صالح وهانى شاكر وغيرهم. أذكر فى بداية ظهور المطربة شيرين ولم يكن أحد يعرفها بعد أن نشرت جريدة الوفد حواراً مع الموسيقار الكبير، حين سُئل عمن يتوقع نجاحه وانتشاره من الأصوات الجديدة ذكر شيرين، مؤكداً أنها تملك صوتاً نادراً حساساً، وقد تعجبت حينها أن يكون هذا رأيه، فقد كانت لا تزال فى خطواتها الأولى وأداؤها يميل إلى اللون الشعبى - فى رأيى - ومرت الأيام والسنوات وصدقت نبوءته، كما صدقت مع كثيرين غيرها.
الفنان محمد سلطان من الفنانين القلائل الذى لم يثيروا صخباً فى حياتهم، ولم يفتعلوا الأزمات والمشاكل، ولم تكن حواراته الإعلامية إلا فى الفن والطرب أو ذكرياته مع الفنانة فايزة أحمد الذى ظل محباً لها حتى بعد انفصالهما وبعد وفاتها، وهو يتحدث عنها بحب نادر!
التقيت بالفنان الكبير لمرة واحدة، امتدت لعدة ساعات لم يتوقف فيها عن الحديث عن زوجته الراحلة، التى كان يقدمها على نفسه فى كل عبارة وحكاية، ويقول: كانت أطيب كانت أكرم … إلخ، وظل محتفظاً بكل تفاصيل حياتهما معاً، فقد ترك فرش بيته كما هو وكما تركته فايزة أحمد، وكان يقول: لقد اشتريناه معاً، ولم أغير حتى أقمشته، وكان يحتفظ بالفساتين التى ارتدتها فى حفلاتها، وبصورها تملأ جدران البيت، وظل وفياً وفاءً نادراً حتى رحل.
لكن الشيء المحزن أن هذا الرجل النبيل الراقى المترفع شديد الوفاء قابل جحوداً ممن أحسن إليهم فى بداياتهم وقد كانوا لا يعرفهم أحد، فساندهم وقدّمهم ولحّن لهم وشجّعهم وتبنّاهم، وظلوا فى أحاديثهم ومناسباتهم يفخرون أن من اكتشفهم هو محمد سلطان، ثم لا نجد سوى بضعة أشخاص فى جنازة هذا العملاق، كما لو كان قد أمضى حياته هباء.
والحقيقة أننى لا أتوقف كثيراً عند عدد الحضور فى جنازته وهو أمر مخجل، لكن ما يستوقفنى هو الوحدة التى كان يعيشها الرجل الذى من المفترض أنه ربى جيلاً كبيراً من الفنانين سواء كانوا مطربين أو عازفين، ولكن فيما يبدو أننا نحب الضوضاء والصخب فى الحياة وفى الموت، ونظراً لأن الرجل كان هادئاً لا يثير جلبة ويتسم بالتسامح والهدوء والرقى، ولم يخرج فى القنوات ووسائل الإعلام يكيل الشتائم، وبالتالى لا خوف منه.
كما أنه لم يحرص على تكوين أو الانضمام لفصيل أو شلة، فاللوم لن يوجَّه لأحد إذا ما رحل دون أن يودَّع بما يليق بتاريخه، وهو أمر محزن ينضم إلى بقية المظاهر المحزنة والمخجلة التى تحاصرنا اليوم.هؤلاء الذين أظهروا جحودهم لهذا الرجل لن يضروه شيئاً، لكنهم أساءوا لأنفسهم ولصورتهم، أما محمد سلطان فسيظل اسماً كبيراً فى تاريخ الموسيقى وتاريخ مصر الفنى.. رحمه الله.