كارم محمود يكتب: "التويتريون الجدد".. إيلون ماسك واندثار "قبيلة تويتر"

كارم محمود يكتب: "التويتريون الجدد".. إيلون ماسك واندثار "قبيلة تويتر"
منذ سنوات، قرأت كتابًا ممتعًا للمفكر الإماراتي النابه الدكتور جمال سند السويدي، عنوانه "وسائل التواصل الاجتماعي ودورها في التحولات المستقبلية.. من القبيلة إلى فيسبوك".
تذكرت الكتاب الشيق وصاحبه، وأنا أتابع المعركة التي تدور رحاها في الفضاءات الإلكترونية، منذ أيام، بين رواد ومستخدمي موقع التواصل الاجتماعي الشهير "تويتر" من ناحية، وعلى الطرف الآخر المالك الجديد للموقع الملياردير الأمريكي إيلون ماسك، وهي الحرب التي أظن أنها تنذر بقرب اندثار ما يمكن أن نسميه "قبيلة تويتر".
مصطلح "القبيلة" هنا ليس لي، فصاحبه هو الدكتور جمال السويدي، الخبير الاستراتيجي البارز ونائب رئيس مجلس أمناء "مركز الإمارات للدراسات والبحوث السياسية"، الذي كان أول من أصطك مصطلح "قبيلة" ليصف به سلوك غالبية رواد مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يقول في كتابه الشيق المذكور "إن وسائل التواصل الاجتماعي ولدت لدى المستخدمين والنشطاء نوعًا من سلوك الولاء والانتماء تجاه هذه الوسائل، أو ما يمكن تسميته بـ"العصبية الافتراضية".
ويبدع الكتاب وكاتبه، وهو أستاذ للعلوم السياسية، في الربط بين خصائص ومكونات "القبيلة" في مفهومها المجتمعي- السياسي، ومثيلتها في وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا في مواقع مثل "تويتر" و"فيسبوك".
إذ يرى د.جمال السويدي أن "العصبيات المتعددة المكونة للقبيلة تتماثل مع منظومة التواصل الاجتماعي، التي تنخرط فيها مجموعات متفرقة في المكان والزمان، ولكنها تتبنى توجهات ورؤى معينة وواحدة، مما يُحولها إلى عصبية قائمة بذاتها"، وهي ما يُطلق عليها السويدي "العصبيات الافتراضية"، والتي تتطور في مفهومه إلى مستوى "قبائل العالم الافتراضي"، بما تحتويه من سمات اجتماعية مماثلة للقبيلة الفعلية، من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
إذا طبقنا ما ذهب إليه د.السويدي على منصة التواصل العالمية "تويتر"، التي انطلقت في منتصف العام (2006) ويبلغ عدد مستخدميها النشيطين يوميًا نحو 240 مليون مستخدم، نستطيع أن نتلمس الملامح التي تشكلت منها "قبيلة تويتر" عالميًا، والتي كانت تضم في البداية "مجتمع النخبة" وغالبيته زعماء وقادة سياسيين ورجال أعمال كبار، ومشاهير الشخصيات العامة من مثقفين وفنانين ورياضيين. لكن في السنوات الأخيرة، ظهر "التويتريون الجدد"، أو من بات يُطلق عليهم "المؤثرون"، وهم مجموعات مختلفة أغلبهم من هواة الشهرة.. وبعضهم من أدعياء الموهبة واستعراض المعرفة والخبرة.
ويبدو أن الكتاب الرائع، الذي صدر عام (2013)، كان بمثابة "استشراف للمستقبل" من كاتبه الباحث البارع، إذا ما نظرنا إلى تفاصيل "معركة إيلون ماسك والتويتريون" التي اشتعلت مؤخرًا، عقب قرار مفاجئ من الملياردير الأمريكي، بعد أيام قلائل من استحواذه على موقع التواصل العالمي "تويتر"، بفرض رسوم قدرها ثمانية دولارات شهرية لمنح (أي مستخدم) علامة التحقق الزرقاء (Twitter Blue)، والتي تعني أن الحساب صحيح، وهي ميزة كانت متاحة سابقًا للشخصيات العامة وكبار المسؤولين الحكوميين (فقط)، كطريقة معتمدة لإظهار هوياتهم.
الفوضى التي أشعلها قرار "إيلون ماسك" بين رواد الموقع الشهير، وأدت إلى استفزازهم، سببها أنه أتاح "لكل من هب ودب"، كما نقول، اختراق عالم "قبيلة تويتر" بسماتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المشتركة والمحددة، إذ رفض هؤلاء تصرفات وسلوك صاحب المنصة الجديد، واعتبروه غريبا عنهم، أو "ليس من القبيلة".. ودخيلا عليها، وأعلنوا العصيان على سلطته.
وهب الآلاف من رواد ومستخدمي "تويتر" للدفاع عن منصتهم الاثيرة- وربما الأسيرة أيضًا- وأغرقوا "فضاء تويتر" بآلاف التعليقات الساخرة، وأنشأ بعضهم حسابات مزيفة منسوبة إلى شخصيات عامة (ومنها ماسك نفسه)، أو جهات رسمية وشركات عالمية، واختلط الحابل بالنابل.. ولم يعد في الإمكان التمييز ما بين دعاة السخرية من قرارات صاحب المنصة الجديد، أو محترفي عمليات الاحتيال الإلكتروني.
وبينما كانت تعليقات "التويتريون القدامي" متزنة في أغلبها، وتنتقد قرارات "ماسك" في هدوء وموضوعية، جاءت ردود أفعال "التويتريون الجدد" صاخبة للغاية، إذ اجتاحوا المنصة الشهيرة بمئات الحسابات الزائفة، التي تسخر من "ماسك".. وتخترق خصوصية المنصة، وتضعف مصداقيتها، وتقوض معدلات "الثقة والأمان" العالية التي تفخر بها.
بل أدى أحد تلك الحسابات المزيفة، الذي اشترى "علامة التحقق الزرقاء" بثمانية دولارات، إلى خسارة إحدى شركات الأدوية العالمية (15 مليار دولار)، بعد أن انخفضت أسهمها في البورصة بسبب تغريدة على الحساب الزائف، تفيد بأن الشركة تتيح "الإنسولين مجانًا" لمرضى السكري. ورغم أن إيلون ماسك تراجع عن قرار إتاحة "العلامة الزرقاء" لمن يدفع، إلا أنه بات الآن هدفًا للشركات المتعددة الجنسيات واسعة النفوذ، والتي ربما تلاحقه قضائيًا حتى يشهر إفلاسه، وهو ما أدركه "ماسك" نفسه، بإعلانه أن إمكانية تعرض تويتر للإفلاس "ليس مستبعدا".
ولأن تصرفات "ماسك" الحمقاء لم تتوقف عند هذا الحد، بل شملت تسريح آلاف الموظفين، وفصل عدد من القيادات التنفيذية المؤثرة.. واستقالة عدد آخر منهم، ما أدى إلى غياب "عقل المنصة" الذي يستطيع التعامل مع هكذا أزمات. وبات الوضع الحالي لـ"تويتر" يشبه "طائرة في منتصف رحلتها.. من دون طيارين"، بحسب وصف بعض المراقبين.
حملة "التويتريون الجدد" لم تتوقف ضد إيلون ماسك، رغم قراره بإلغاء "خدمة التوثيق" مؤقتًا. وبينما يقف الرجل مذهولًا مما يحدث له من أعضاء "قبيلة تويتر"، يبدو الأمر الآن أن "ماسك" نسي، وهو يضع اسمه كمالك للمنصة الإلكترونية الشهيرة، أن رواد ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي- ومنهم التويتريون- باتوا يتحدون سلطة الحكومات والأنظمة، وليس غريبا عليهم أن يتحدوا سلطة مالك المنصة، حتى وإن كان إيلون ماسك. فهل نشهد "اندثار قبيلة تويتر" على يد مالكها الجديد؟!.
كاتب صحفي.. السكرتير العام السابق لنقابة الصحفيين