يومياتي مع الصم والبكم

• دخلت حجرة الفحص الطبى وهى مبتسمة مع ابنتها، تحدثت ابنتها الشابة، أدركت بعد دقائق أن الأم من طائفة الصم والبكم، لكنها دائمة الابتسام والتجاوب فى الحديث بكل حواسها ومشاعرها، تشعر بكيمياء رائعة بين هذه الفتاة ووالدتها، شجعنى ذلك أن أوجه لها كلمات تحية عبر ابنتها، قابلتها بإشارات جميلة.• تحسنت صحة الفتاة بسرعة، إشارات شكر متعددة من الأم التى لا تنقطع ابتسامتها وتفاؤلها.• قلت لنفسى: هذه الأسرة جميلة فى مشاعرها رغم إعاقة الأم والأب بالصم والبكم وهما من أصعب الأمور عليه وعلى أسرته، حتى إن القرآن العظيم قدم السمع على البصر، وذلك فى قوله تعالى: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً»، وهذا ما تعلمناه من أساتذتنا فى تخصص الأنف والأذن والحنجرة فى أول محاضرة لهم فى كل عام دراسى.• السمع هو آلة التعلم الرئيسية، ولذلك قد ترى الكفيف عالماً كبيراً وفذاً، فى حين أن طائفة الصم والبكم لا تخرج عالماً لأن قناة الاتصال بينهم وبين العالم والعلم مقطوعة.• قلت لها: أراك تتحدثين لغة الصم بمهارة مع والدتك، فكيف تعلمت لغة الإشارة؟• قالت: كنت الابنة الوحيدة وكان عمرى عامين، وكنت لا أفهم أمى وأبى، فأظل أبكى من فرط القهر والوحدة، حتى تأخرت فى الكلام لعدم سماعى لأى لغة حولى.• كانت فترة عصيبة شعرت فيها بالوحدة القاسية رغم وجود أبى وأمى حولى.• أدركت أمى مشكلتى بذكائها فاستدعت خالتى التى تجيد الحديث العادى، ولغة الإشارة لطول عشرتها مع أمى، عاشت خالتى معنا فترة طويلة تعلمنى الحديث العادى وتدربنى كذلك على لغة الإشارة فتقول لى إذا احتجت إلى الأكل مثلاً فإشارتها كذا، إذا احتجت إلى الحمام فإشارته كذا، وهكذا.• بعد تمام تدريبى عادت خالتى لقواعدها سالمة، وأصبحت أجيد الحديث العادى بعد أن تأخرت فيه، وأجيد لغة الإشارة، لم يتعب شقيقى الأصغر كما تعبت، فقد قمت بتعليمة اللغتين بسهولة ولم نحتج لخالتى مرة أخرى، من يومها وكلانا يحسن التواصل وحديث الإشارة مع والدينا.• قالت لى: أنا محظوظة والحمد لله وسعيدة فى خطبتى، ولكن كيف تعرف خطيبك عليك؟! قالت: والده صديق والدى ورآنى ابنه وخطبنى، ووالده يعرفنا ونعرفه، ووالده من نفس الطائفة، ووالدى يعمل نجاراً، وهو عبقرى فى النجارة وتصميماتها.• قلت لها: ما رأيك فى الصم والبكم؟!• قالت عندهم ذكاء مفرط وحنان لمحبيهم لا مثيل له، ومعظمهم منظم جداً، وعيبهم الوحيد العصبية وسرعة الضيق، خاصة إذا استفزهم أحد أو جرح كرامتهم، وهم يحبون بعضهم البعض.• قصة هذه الفتاة مع والديها ذكرتنى بسيدة فوجئت بأن ابنها من ضعاف السمع ويحتاج لسماعة فتعلمت لغة الإشارة ولم تكتف بذلك بل ترجمت أغانى الأطفال إلى لغة الإشارة ونشرتها فى فيديو على مواقع التواصل الاجتماعى فحصدت إعجابات كثيرة من هذه الطائفة صغيراً وكبيراً.• أما قصص الحب بين الأزواج الصم فهى معروفة وعميقة جداً، والغريب أننا لم نسمع حالة طلاق واحدة بينهم، أو سوء تفاهم بينهم، وبين الحين والآخر تحضر لى زوجة شابة مع زوجها وكلاهما أصم وأبكم وتحضر معهما والدة الزوجة التى تتحدث معى، وهما يعانيان معاً من حالة عقم ابتدائى، وأرى على وجوهما علامات الحب والتفاهم، وكلاهما جميل الطلعة، وتخبرنى الزوجة بالإشارة وترجمة الأم أنها متضايقة جداً من تدخين زوجها وتشعر أنه السبب فى حالة عقمه، فأقول لها: هو خطأ كبير ولكنه ليس السبب وأنه بظروفه هذه من الصعب أن يوقف التدخين مرة واحدة ولكن يمكنه الإقلال منه بالتدريج، ومن خبرتى مع هذه الطائفة أرى أن أى زوجين من هذه الطائفة يحتاجان دعماً معنوياً ومادياً مستمراً من الوالدين، خاصةً من أسرة الزوجة.• حياة أى زوجين من هذه الطائفة تكتنفها صعوبات كثيرة؛ منها عدم سماع صوت جرس الباب، الحرج من أى ضيف أو زائر جديد، أو أصدقاء جدد، يحتاج كل ذلك إلى وساطات أو حلول مبتكرة لمثل هذه المشاكل، هى لا تسمع بكاء أو نداء أو صراخ ابنها، ولكن الأم الصماء تشعر بابنها بقلبها وتقرأ ما يعاينه بمشاعرها وذكائها الفطرى، عادة ما يذهب الرجال إلى قهوة أو كافيه خاص فى كل بلدة يجمعهم، معظمهم يعمل وينجح فى عمله ويستطيع الإنفاق على بيته.• لن أنسى يوماً أحدهم، وهو عمار الحصرى، من بلدتنا، كان من المتفوقين فى الدراسة والرياضة رغم إعاقته، حصل على جوائز رياضية كثيرة وعلى المركز الثانى فى التصميم والابتكار، ابتسامته لا تفارق شفتيه، كان يذهب خلف الجنازات وحده، كان بارعاً فى مهنة الكهرباء، وكان المعلم يأخذه معه من صغره فى أعمال الكهرباء الكبرى، كان ينفق على نفسه وتزوج من حر ماله وكسبه، كان ينهر أى أصم يطبع ورقة ويتسول بها، ويدعوه ليعمل معه ويعلمه المهنة، كان يعلم أولاده تقبيل يد الجد والجدة.• كان «عمار» أسطورة نورانية صالحة تسير على قدمين، كانت الأسرة تتبرك به ما ذهب معهم فى أمر إلا وقضى وتيسر.• سلامٌ على الصابرين والراضين عن الله وقدر الله.