محمد عبلة: كنت أرسم على جلبابي في طفولتي.. وعشت محبا للفن والحياة (حوار)

كتب: محمد أسامة رمضان

محمد عبلة: كنت أرسم على جلبابي في طفولتي.. وعشت محبا للفن والحياة (حوار)

محمد عبلة: كنت أرسم على جلبابي في طفولتي.. وعشت محبا للفن والحياة (حوار)

طوال رحلة فنية جاوزت الأربعين سنة، ظل علامة بارزة في تاريخ الفن التشكيلي، فقد رسم لنفسه خطا منذ نعومة أظفاره وسار عليه طوال سنوات، لم يحد عنه قط، بداية من نشأته الريفية، وصولا إلى حصوله على وسام جوته كأول فنان تشكيلي عربي يحصل عليه.

وبين النشأة والوسام وضع حياته في ميزان الحب والفن، فعمل من أجل الفن ونذر نفسه له، وكانت آخر هذه الخطوات معرض «سيزيف» الذي سلط الضوء على رحلة «عبلة» من النشأة إلى التتويج، بأعمال نادرة وأرشيف خاص. «الوطن» حاورت الفنان التشكيلي محمد عبلة، وإلى نص الحوار..

كيف كانت نشأتك؟ وهل كان لها تأثير في تكوينك؟

الطفولة هي أهم شيء في نشأة الفنان، فكل الأفكار الكبيرة التي تمر بها في حياتك نابعة من نشأتك، والتوجه الذي ستعيشه بعد ذلك نابع من بداياتك، فإذا رزقت بالوعي منذ الصغر ستجد وعيك يكمل الطريق معك، «وأنا صغير كان الرسم بالنسبالي تلقائي، كنا بنلبس جلاليب بيضاء وأمي هي اللي كانت بتخيطها بإيديها، وكنت برسم عليها، فبدأت تعملي جلاليب مقلمة عشان مرسمش عليها، وكنت برسم بتلقائية من غير معرف ليه».

ربما نشأتي بمدينة بلقاس التابعة للمنصورة، ونشأتي شبه الريفية جعلت لي شيئا من التميز، وكانت معظم صداقاتي لمن هم أكبر مني سنا، و«كنت برسم أحسن من ناس كتير، وكانوا يحبوا إني أبقى موجود معاهم».

لم أكن أبحث عن أشياء لرسمها، لكني كنت أرسم ما أشعر به، فكنت أبحث عن الحياة، وأحب أن أركب سيارات النقل الجماعي لأنها تفتح لي آفاقا للرسم.

كيف كانت حياة محمد عبلة في شبابه؟

كنا كجيل من الفنانين الشباب شبه مقيمين بأتيليه القاهرة ومقهى زهرة البستان، لأنه المكان الوحيد المتاح نظرا لانخفاض الأسعار فيه، فقد كنا في بداياتنا لا نقدر على التواجد بالأماكن باهظة الثمن، فكنا نكتفي بالجلوس هناك ودفع قروش بسيطة نظير ما نطلبه، وهناك احتككت بجميع الطبقات، وكان من المفترض أن أعمل بالصحافة لكنني لم أحبها وعملت في مجلة أكتوبر لمدة أسبوعين، عندما كان أنيس منصور رئيسا لتحريرها، وحينها تعرفت على عدد كبير من الفنانين والكتاب أمثال يحيى الطاهر عبدالله، وغيرهم، «كانت الدنيا بسيطة للغاية، كان كل الناس مستواها متساوي وكنا بنستلف من بعض».

لكن إيقاع الحياة تغير، ولم يعد هناك مثلهم، لأن من عرفتهم في شبابي أنهكتهم الحياة، ورأيت كثيرا من المثقفين الذين يمكن أن نقول عنهم إنهم بشر حقيقيون، فيحبون بقسوة ويكرهون أيضا بقسوة، حتى في الخلاف يكونون أصعب من أي وقت آخر.

لم يعجبني جو الصحافة، وتشاجرت مع أنيس منصور بأول لقاء لي به، لكنه رغم ذلك كان عذب الحديث جدا، ولا يمكن أن تمل منه. «دخلت مكتبه لقيته عبارة عن قاعة كبيرة ومكتبه في نهايتها، كأنك هتمشي مشوار لحد مكتبه، فقررت إني مش هبصله، وهبص على اللوحات اللي على الحيطة كأنه نوع من الاحتجاج، خصوصا إنه كان بيتفحص القادم إليه منذ لحظة دخوله من الباب مما يسبب ارتباكا للداخلين»، ثم وضعت حقيبتي على مكتبه وجلست دون أن أوجه له كلمة فتشاجرنا، كان ذلك نتاج حالة من شعوري بالاستغناء، فلم يكن لدي سكنا أو أموالا؛ لذلك وجدت أنه لابديل عن فعل ما أحب، «مكنش فيه حاجة أبكي عليها، مقابل ذلك كان أما حد بيحبني بيحبني بجد».

من كان أقرب الفنانين أو الكتاب إليك في شبابك؟

لا أنسى أبدا علاقتي بيحيى الطاهر بعدالله، التي كانت من أقوى ما يكون، كان يحيى الطاهر إذا بدأ في الحديث لا يستطيع أحد أن يجاريه، فقد كان حكاء كبيرا ويأسرك وأنت تستمع إليه، وكان دائما ما يتحدث باللهجة الصعيدية.

كيف نجذب الجمهور للفن التشكيلي؟

يجب أن يكون هناك اهتمام بالجانب الثقافي أو الفني بشكل عام أولا، وإذا نظرنا للفن التشكيلي بشكل خاص فهو ليس فنا جماهيريا في الأساس، وعدد الموهوبين في العالم كله قليل، وهو فن يخص الجماهير إذا كان مقصودا منه أن يوجه للجماهير؛ وهو على عكس الغناء والكتابة، لأنه لغة خاصة لابد أن تتعلمها لترسم بها وتتعلمها لتفهمها أيضا وهي ليست أمرا شائعا، جميعنا يرى اللوحات والأشكال ويتعرف عليها ولكن لكي تحسها تحتاج بعضا من المعرفة والمجهود؛ لأن هذا النوع من الفن ليس سهلا ويكون جماهيريا إذا قصدت أنت أن يكون جماهيريا.

كذلك لابد من وجود صحافة فنية تمكن هذا النوع من الفن من الوصول إلى أقرب قدر ممكن من الجمهور؛ فكل فنان يتمنى أن يتابع الناس عمله، «عشان كدا لازم يبذل مجهود».

هل الفن التشكيلي فن نخبوي؟ وهل من الممكن أن ننزل بهذا النوع للجمهور؟

هو يحتاج إلى معرفة لفهمه، ولو أردت أن تنزل بهذا النوع من الفن للجماهير لن يستطيعوا فهمه؛ لذلك يجب أن يكون هناك رغبة من الفنان في إيصال فنه للجمهور ويكون لدى الجمهور رغبة في أن يتعرف على هذا النوع من الفن، ويكون هناك نوع من التلاقي المشترك. فإذا قارنا علاقتنا بالفن بعلاقتنا بالسمع والقراءة سنجد أنهما أقدم، لكن علاقتنا بالفن البصري ليست على نفس الدرجة من القدم، لذلك فنحن نسمع الأغاني بالسليقة.

ولكي نتذوق الأدب نحتاج إلى معرفة، لكن ليس باستطاعتنا جميعا فهم المكتوب، لذلك لابد من وجود تذوق للعمل المكتوب، وكذلك تذوق للفن التشكيلي، «كل متعرف أكتر وتزود علاقتك بالفن يتعرف عليك أكتر، لذلك فهو نخبوي لأنه علم، ويحتاج إلى معرفة».

هل الدراسة من الممكن أن تنتج فنانا تشكيليا؟

الدراسة لا تنتج فنانا بل تنتج متذوقا، لكن الفنان صناعة ثقيلة، قد تدرس الفن لكن بجوار ذلك لابد أن تعمل كثيرا وتتعلم، لكن الكلية والدراسة هي أول خطوة، «دفعتي كانت 35 طابا، ومن أكمل في مجال الفن اثنان فقط، والباقون أصبحوا متذوقين أكثر ويستطيعون الانتماء لعالم الفن أكثر من غيرهم».

كما أن زيادة عدد الكليات الفنية والفنون يزيد الرقعة والمساحة الخاصة بانتشار الفن، «لو قلنا إن في مصر نحو 2000 طالب يدرسون فنون، فلديك نحو 2000 أسرة تتردد على مسامعهم مصطلحات خاصة بالفن وتسبب في المعرفة لديهم.

هل هناك «جاليريهات» يمكن أن توجه الفنان للوحات معينة؟

طبعا هناك من يوجه ويفرض على الفنان خطا معينا للسير عليه، «الفن به جزء تجاري، والجزء التجاري لازم الفنانين تلبيه، وفيه أيضا جزء معنوي وهو الخاص بالأفكار والرقي بالمجتمع، لكن الجزء التجاري أسهل، وهو أن تفعل ما يعجب الناس، وطريق آخر أصعب وهو أن تُعَود الناس أن يعجبوا بأشياء أخرى، فالفنان مهمته أن يرتقي بفنه لكي يرتقي بالآخرين، أو يستجيب للضغوطات».

الفن لا يمكن أن يكون جادا فقط، «هتلاقي الجاد وغير الجاد، لأن البشر والجمهور المتلقي عموما على نفس الشاكلة»، وهو فن نخبوي لأنه لابد أن يدرك المجتمع أهمية الثقافة والعلم، ولابد أن يتأثر به المجتمع، وهو لغة، وهناك من أفنى عمره لبناء هذه المفردات الخاصة به. فالفن للفنان احتياج ومعه تنسى كل شيء.

كيف كانت سنوات بداياتك في الغربة؟

سافرت إلى أسبانيا أول الأمر بعد الانتهاء من دراستي الجامعية بغرض الدراسة، عن طريق منحة شاملة كل التكاليف المعيشية، «كنت مطمئنا للغاية، وعشت فترة من الاستقرار، وأول محسيت بالأمان مرسمتش ولا لوحة، وحسيت بخوف شديد للغاية وكان لابد أن أرمي نفسي للمجهول»، ودفعني ذلك إلى ترك المنحة وأسبانيا، وقررت أن أعمل في أعمال عادية للغاية، لعلها تصقل موهبتي، فعملت بائعا للورد ورسامًا بطريقة المقص، وكنت أرسم بأفكاري من البداية، رسمت بالمقص في أسبانيا وكنت ناجحا للغاية، ولاقى انبهار الناس وكذلك رسمت الكاريكاتير.

كنت أعمل ساعتين فقط في اليوم حتى لا يعجبني الأمر، «كنت بشتغل عشان أجيب مصاريفي، وسافرت باريس واشتغلت في الشارع وكانت ساعة الشغل بـ20 دولارا». وكنت أراها كافية.

سافرت ألمانيا ونفذت أول معرض وكسبت مبلغا من المال، وأجرت مرسما، وكانت هذه الفترة هي فترة انطلاقتي الحقيقية، ثم سافرت سنة إلى النمسا للدراسة، و«كنت أوظف الحياة من أجل احتياجاتي، ولم يحدث أني اضطررت لعمل شيء لا أحبه، وأدركت قيمة الحرية وقدرتي على تنفيذ أفكاري».

ماذا نفعل ليكون بمصر أكثر من محمد عبلة؟

المجتمع ينقصه القدوة، حيث حدث تحطيم وهدم ممنهج للشخصية المصرية على مدار سنوات، وأرى أن ذلك كان مؤامرة على مصر منذ فترة طويلة للغاية، كان لدينا العقاد وطه حسين ويحيى الطاهر عبدالله ونجيب محفوظ، وكانوا يصلحون أن يصبحوا قدوة لغيرهم، وبكل العالم تجد القدوة التي يصرون عليها.

«كل واحد فينا له دور في الحياة؛ ولازم تبذل مجهود عشان تعمله على أفضل وجه، مع الأخذ في الاعتبار كل التحديات التي تواجه الفنان، ورغم صعوبة ذلك فلابد أن تقوم بدورك».

أنا رجل يخجل عندما أتحدث عن نفسي، لأني أرى أني لم أفعل شيئا، وكل ما فعلته بحياتي أنني عشت حقا، أخذت الحياة بجدية، فحياتي مختلفة عن الغالبية العظمى من الفنانين المصريين لسفري كثيرا، «لفيت بلاد كتير في العالم وأماكن مكنتش أحلم أو أتخيل أن أزورها، ورافقت أناس لم أتخيل أن أرافقهم أو أجالسهم، وكل ذلك حدث بسبب الفن لا شيء آخر، جلست مع رؤساء دول وزرت أماكن فخمة للغاية، وجالست عظماء بسبب الفن لا أكثر، وكل علاقاتي لأجل الفن لا غيره، عشت للفن وعاش بداخلي، فالفن هو من صنعني».

كيف ترى التكريم بأعلى وسام ألماني؟

لم أسع للتكريم قط، لكنني كنت في غاية السعادة عندما علمت بترشيحي للجائزة، وهي هدية أهديها لكل مصري.


مواضيع متعلقة