في الأزمة الأوكرانية.. الاختيار بين الأخطر والأشد خطورة!
بعد أيام من اجراء استفتاء "افتراضي" لضم أراضي أوكرانية لروسيا، قدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأحد من هذا الاسبوع، اتفاقيات ضم مقاطعات دونيتسك ولوجانسك وخيرسون وزاباروجيا إلى الدولة الروسية للتصديق عليها في مجلس الدوما الروسي، ويتوقع بالطبع أن تحظى على الموافقة بعد أن قضت المحكمة الدستورية الروسية بقانونية معاهدات ضم الأراضي الأوكرانية، وهي مجموعة معاهدات وقعت الجمعة في الكرملين بين الرئيس بوتين وزعماء المناطق الانفصالية والمحتلة في أوكرانيا.
حيث أفادت وثيقة قضائية نشرتها المحكمة بأنها "تعترف" بالمعاهدات الموقعة بين موسكو وأقاليم أوكرانيا الأربعة، باعتبارها "تتماشى" مع دستور الاتحاد الروسي.
ولكن مثل هذه الإجراءات ومن بعدها القرار المتوقع من مجلس الدوما، هل واقعيا على الأرض يمثل نهاية للقصة الأوكرانية لتلك الأقاليم، ويمكن وضعهم على نفس "الرف" الذي سبقهم عليه شبه جزيرة القرم؟سؤال شائك باعتبار تصنيفه لازال حائرا، بين عنوانه السياسي والقانوني وبين طبيعته العسكرية باعتباره يطرح تحت أزيز القصف ومن حوله طلقات النار من كل اتجاه.
فالحرب المستعرة قد يكون لها قول آخر هذه المرة، تجعله مختلفا ولو نسبيا في تصور منتهاه عما جرى في القرم عام 2014 بملابسات مغايره بالتأكيد.
ففي نفس يوم عرض الأمر على مجلس الدوما، بحثا عن غطاء يجعل قرار الضم يبدو ليس "بوتينيا" خالصا على الأقل في الداخل الروسي، كان هناك اعلان أوكراني لم تنفه موسكو كونه واقعا حقيقيا على الأرض، بتمكن الجيش الأوكراني من فرض كامل السيطرة على مدينة "ليمان" الاستراتيجية الواقعة في "دونيتسك" أحد المقاطعات الأربع المشار إليهما.
كما تمثل بموقعها الحاكم على شبكة خطوط السكك الحديدية لهذا المحور بكاملة، أهمية اضافية لهذا الاختراق الأوكراني المبكر لقرارات "ضم" لازالت هشة، رغم ارتفاع نبرة التهديد الروسي المصاحبة للإجراءات الداخلية، التي ترى أنها حسمت لها الأمر للأبد.
حيث برزت سريعا مشكلة كبيرة للقوات الروسية؛ التي وجدت نفسها خلال أيام في موقع دفاعي، وتحت ضغط الاضطرار إلى رسم خط جبهة جديد.
ففي محور شرق منطقة خاركيف بالشمال الشرقي لأوكرانيا، تلتقي خطوط السكك الحديد في محطة كوبيانسك فوزلوفي لتتجه بعدها جنوبا نحو سفاتوفيه أهم مناطق لوجانسك التي ضمتها موسكو، والتي كانت خلال الاحتلال الروسي الذي استمر ستة أشهر تستخدم القطارات لتنقل عبر السكك الحديد الإمدادات الرئيسية لقواتها المنتشرة جنوبا، ما جعل من هذه المحطة مركزا لوجستيا حيويا للعمليات العسكرية الروسية.
تلك التفاعلات العسكرية السريعة، أجبرت القوات الروسية في ساعات حاسمة من إعلان الضم إلى القيام بعديد من الانسحابات، التي شوشت على مشهد التوقيع على المعاهدات بالكرملين ودفعت أصوات عدة للخروج بانتقادات لاذعة للأداء العسكري الروسي، مثلما صرح الزعيم الشيشياني قديروف كالعادة بأن الجيش الروسي لم يستخدم القوة الكافية لمنع هذا الاختراق المذل، في لحظة كان يراد لها أن تخرج احتفالية وأن تلعب دور "محطة انتصار" تمكنها من تجاوز الاشكاليات التي جرت في غضون قرار "التعبئة" الجزئية، حيث لم يستفق الداخل الروسي منه بعد.
لذلك كان هناك من يقرأ التبكير الروسي بإعلان ضم الأقاليم الأربعة، التي لم يتمكن الجيش الروسي من احكام سيطرته عليها كاملة بعد ثمانية أشهر من عمر الحرب، بأنه تعبير عن احتياجه لفترة تجميد لخطوط القتال بالأخص في تلك الجبهة، تمكن القيادة العسكرية من الاستيعاب الإيجابي لقرار التعبئة ومن ثم إعادة تشكيل القوات الروسية، والعمل على استحداث آلية دمج جديدة للقوات الانفصالية الموالية، كي تصل إلى هدف احداث فارق القدرات الكاسح في مواجهة القوات الأوكرانية، وبعدها تعاود الانخراط في القتال بالمعطيات الجديدة، لكن هذا لم يتحقق وأجهض هذا المخطط النجاح الأوكراني الأخير.
بالتأكيد كان لافتا استعادة الرئيس الروسي مرة أخرى؛ استخدامه لإشارات جاهزيته لاستخدام السلاح النووي، في لهجة تتفق مع لغته السابقة حول هذا الموضوع.
ربما تجنب توجيه تهديدات مباشرة أو صراحة إلى الجيش الأوكراني، في حال استمراره بتنفيذ هجمات مضادة مثلا، إلا أن غالبية المراقبين توقفوا أمام ما ألمح به بوتين عن استعداد روسيا لاستخدام "جميع الوسائل المتاحة" للدفاع عن الأراضي الروسية، في حال ربطه بقرارات الضم والتعامل الفعلي مع أراضي المقاطعات الأربعة باعتبارها أراضي روسية.
هذا بلا شك أخطر ما يمثله قرار الضم حتى وإن لم يجر الاعتراف بشرعيته أو قانونيته، وهذا الأخير أمر ثانوي بالتأكيد، في حين تكمن الخطورة البالغة بتطورات مسرح العمليات على خطوط التماس لتلك المقاطعات، على نحو ما جرى في "ليمان" مؤخرا.
فقد تمثل لحظة استثنائية من الضغوط العسكرية أو الداخلية عامل تحفيز للجوء القيادة الروسية إلى هذا الخيار، الذي صار متداولا بأكثر مما تحتمله أحداث الحرب بل ومنفتح على تصوير الدول الغربية على أنها المعتدي الحقيقي.
التهديد باستخدام السلاح النووي، عبر عنه البعض باحتياج الجيش الروسي لانفاذه على الأرض الآن بسقف المستوى التكتيكي، لإجبار كييف سريعا على الجلوس إلى طاولة مفاوضات، تسجل عليها اعتراف ضمني بضم القرم والأقاليم الأربعة كحدود إقليمية جديدة يمكنها التكيف معها، كي تمثل نهاية روسية سعيدة للحرب.
هذا السيناريو وجدية اقترابه دفع عواصم غربية عدة وواشنطن في المقدمة بالطبع، للتصريح بأن حديث بوتين يؤخذ على محمل الجد، كون اشاراته إلى سابقة استخدام الولايات المتحدة للسلاح النووي في اليابان، ليس في سياق التلميحات التاريخية فحسب، بل من المحتمل أنه قدر بشكل أو بآخر أن سياسة حافة الهاوية التي يتبعها في مجال استخدام النووي، ستدفع واشنطن وحلفائها للضغط على أوكرانيا من أجل التفاوض.
في حال هبطنا بالسقف قليلا؛ حينها يكون التهديد واصطناع خطوط حمراء، له ارتباط مباشر بمواجهة المساعدات العسكرية الغربية المستمرة لكييف التي من شأنها تمكين هجماتها المضادة، من احداث تغييرات دراماتيكية في ساحات القتال، إلى الحد الذي بات الرئيس بوتين والقيادات العسكرية من قبله لا يطيقون احتماله.