المماطلات الإثيوبية والخيارات المصرية

كان قد تم الاتفاق بين وزراء المياه فى مصر والسودان وإثيوبيا على استكمال دراسات الآثار السلبية لسد النهضة على دولتى المصب، والانتهاء منها والتوافق حول نتائجها، فى غضون فترة لا تتعدى ستة أشهر تنتهى فى أول مارس 2015، ومصر كانت تأمل بعد الانتهاء من هذه الدراسات، أن يبدأ تفاوض حقيقى مع إثيوبيا حول سعة السد التخزينية، وسنوات التخزين، وسياسات التشغيل. ولكن للأسف مر الآن ما يقرب من أربعة أشهر من اجتماعات هنا وهناك ومؤتمرات وتصريحات دون تحقيق أى إنجاز يُذكر. بل حتى لم يتم التعاقد مع مكتب استشارى للقيام بالدراسات المطلوبة، بينما إثيوبيا مستمرة فى بناء السد على قدم وساق. وتم تأخير الاجتماع الشهرى للجنة الثلاثية فى مدينة الخرطوم، التى كانت تهدف إلى اختيار المكتب الاستشارى. وذكرت وسائل الإعلام أن سبب التأجيل يعود إلى محاولات إثيوبية وأخرى سودانية لمد فترة الدراسات إلى سنة أو سنتين، وأن مصر لا توافق على هذه المطالبات. ونتيجة لعدم الشفافية عن حقيقة الأحداث، صارت هناك علامات استفهام كبيرة حول جدوى استمرار المباحثات الثلاثية، وعن إمكانية التوصل إلى تسوية سلمية عادلة لأزمة سد النهضة. وهل قبول مصر للمطلب الإثيوبى بمد فترة الدراسة، بينما إثيوبيا مستمرة فى بناء السد، يعتبر قبولاً ضمنياً بسعة سد النهضة الضخمة، وأن التفاوض سيكون فقط حول سنوات التخزين وسياسات التشغيل؟ وهناك غموض حول أهداف المطالبات الإثيوبية، وأصبحت ليست واضحة للشارع المصرى، فهل هى لاكتساب الوقت بهدف استغلاله فى الانتهاء من الجزء الأكبر من إنشاءات السد وفرضه كأمر واقع على مصر، أم أنّها تعكس المتطلبات الزمنية الفعلية للدراسات المطلوبة؟ وإذا كان الطلب الإثيوبى لمد فترة الدراسات ضرورياً للمكاتب الاستشارية لإنجاز الدراسات المطلوبة، فلماذا إذن تم الاتفاق بين الدول الثلاث منذ أشهر قليلة مضت على الانتهاء من الدراسات فى غضون ستة أشهر؟ هل اكتشفت إثيوبيا هذه الحقائق فجأة خلال الأسابيع القليلة الماضية؟ ولماذا لا توافق إثيوبيا على وقف إنشاءات السد حتى يتم استكمال الدراسات، ولتأخذ الدراسات ما تأخذه من الوقت؟ كل هذه التساؤلات تحتاج إلى إجابات مقنعة لإيضاح الحقائق للشعب المصرى. ودراسات الآثار السلبية للسد من الممكن أن تأخذ سنوات، ومن الممكن إنهاؤها فى شهور، وذلك يتوقف على درجة التفاصيل الفنية المطلوبة والمتفق عليها بين الدول الثلاث. ولكن المشكلة ليست فقط فى زمن أو فترة الدراسات التى يحتاجها الاستشارى، بل تعود أيضاً إلى الفترة التى قد تستغرقها الخلافات المتوقّعة بين الدول الثلاث حول البيانات ودقتها، وحول منهاج الاستشارى، وحول النتائج وتفسيرها. والمشكلة الأخرى أنه بعد استكمال هذه الدراسات، وحتى إذا انتهت بأن السد سيؤدى إلى ضرر جسيم على مصر، فإن رد إثيوبيا المتوقع هو أن من حقها الاستخدام العادل والمنصف لمياه النهر، وفى هذا التوقيت لن يتوافر لمصر الوقت الكافى للجوء إلى التحكيم الدولى أو لاتخاذ أى إجراء آخر. وأنا أتصور أن المسئولين فى مصر فى حيرة من المماطلات الإثيوبية، ويعانون من صعوبة الخيارات المتاحة، وكلها لها تبعات على المستويين القومى والإقليمى، بل والدولى أيضاً. وقد يرى البعض أنه من الأفضل أن توافق مصر على مد فترة الدراسة، لأن ذلك هو السبيل المتاح للانتهاء من الدراسات، التى سوف توضح آثار السد الوخيمة على مصر. ولكن ما فائدة مثل هذه الدراسات بعد إهدار الوقت وفوات فرصة تغيير سعة وارتفاع السد. وكيف نحقق توافقاً مع إثيوبيا حول الأضرار التى ستقع على مصر وإثيوبيا لا تعترف بحصتنا المائية، بل تنادى بإعادة توزيع الحصص المائية على ضوء مبدأ الاستخدام العادل والمنصف للمياه، ضاربة بكل الاتفاقيات التاريخية عرض الحائط. إن الرضوخ والقبول بالأمر الواقع هو تنازل للأبد عن حقوق الشعب المصرى، ولكن رفض سياسة الإملاء الإثيوبى قد ينتهى بحل وسط يقلل من أضرار السد على مصر، أو على الأقل يحافظ للأجيال المقبلة على الأمل فى استرداد ما يتم سلبه من حقوق على أيادى الجيل الحالى. إن إصرار إثيوبيا على مد فترة الدراسات يعتبر إخلالاً رئيسياً باتفاق الستة أشهر بين الدول الثلاث، وعلى مصر مطالبة إثيوبيا بالتوقف عن أعمال بناء السد حتى يتم الانتهاء من الدراسات والتوافق حول نتائجها. وإذا رفضت إثيوبيا وقف إنشاءات السد، فعلى مصر الانسحاب من المباحثات وإعلان رفضها للسد لآثاره السلبية الوخيمة على مصر. والتحرّك المصرى فى هذه الحالة هو البحث عن تسوية سلمية لهذا النزاع على ضوء ميثاق الأمم المتحدة، وذلك من خلال الاتفاق مع إثيوبيا على اللجوء إلى التحكيم الدولى. والتحكيم الدولى يتطلب موافقة كل من طرفى النزاع على اللجوء إلى التحكيم، وفى الأغلب لن توافق إثيوبيا على هذا التوجه. وفى هذه الحالة لن يتبقى لمصر إلا الشكوى إلى مجلس الأمن الدولى والمطالبة بالوقف الفورى لإنشاءات السد واللجوء إلى التحكيم الدولى. ويرتكز الموقف القانونى المصرى على ما جاء فى التقرير النهائى للجنة الثلاثية الدولية الصادر فى نهاية مايو 2013، الذى يُظهر بوضوح أن هناك تقصيراً إثيوبياً كبيراً فى دراسات السد الإنشائية والهيدرولوجية والبيئية والاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى عدة ركائز قانونية أساسية. أولى هذه الركائز هى الحقوق التاريخية فى مياه النيل، التى تستند إلى العديد من الاتفاقيات التاريخية أهمها اتفاقية 1902 الحدودية مع إثيوبيا، التى تعهدت فيها الأخيرة بعدم إقامة أى مشروعات مائية على بحيرة تانا والنيل الأزرق ونهر السوباط تؤثر على تدفقات نهر النيل، واتفاقية 1929 الحدودية، التى تقر بحقوق مصر التاريخية فى مياه النيل، واتفاقية 1959 مع السودان، التى تقر بحصة مصر المائية. والركيزة القانونية الثانية هى عدم التزام إثيوبيا بمبدأ الإخطار المسبق فى بناء سد النهضة، ومبدأ الإخطار المسبق من أحكام القانون الدولى، وذلك من خلال عدة اتفاقيات وإعلانات دولية، منها قواعد «هلسنكى» لعام 1966، والمادة 8 من اتفاقية الأمم المتحدة للاستخدامات غير الملاحية فى الأنهار الدولية لعام 1997، وقواعد برلين لعام 2004. والركيزة القانونية الثالثة هى عدم التزام إثيوبيا بمبدأ عدم الإضرار، الذى نصّت عليه المادة 21 من إعلان استكهولم لعام 1972 بشأن البيئة والتنمية، وكذلك المادة 7 من اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997. هذا هو الخيار القانونى، ولكن السؤال: هل مجلس الأمن سوف يدعم التحرك المصرى القانونى، أم ستحاول بعض الدول الكبرى إعاقته؟ والإجابة ترجع إلى تقديرات القيادة السياسية المصرية لعلاقاتنا الدولية، خاصة مع الغرب، التى تشهد فى الفترة الأخيرة تذبذبات سريعة ما بين الصعود والهبوط لأسباب نعلم بعضها، وأخرى لا نعلمها، وللحديث بقية.