نص خطبة الشيخ الشعراوي على جبل عرفات عام 1976

كتب: سيد المليجي

نص خطبة الشيخ الشعراوي على جبل عرفات عام 1976

نص خطبة الشيخ الشعراوي على جبل عرفات عام 1976

في نوفمبر من عام 1976، اختار ممدوح سالم رئيس الحكومة، الشيخ محمد متولي الشعراوي، ليكون وزيرا للأوقاف، لكنه رفض في بداية الأمر، وبعد مناقشات متكررة، وافق الداعية الشهير على قبول المنصب، وكان يقود أفراد البعثة المصريين في رحلة المناسك، وعلى جبل عرفات التف حوله آلاف الحجيج من عدة بلدان، وكان من بينهم عددا من محبيه ومريديه، وطلبوا منه أن يخطب فيهم، لكنه اكتفى بألقاء كلمة جرى تداولها باعتبارها خطبة عرفات، وكان نصها كالتالي:

بسم الله.. ولا يستعان إلا به.. والحمد لله.. ولا حمد إلا له.. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، أذن الخير التي استقبلت آخر إرسال السماء لهدي الأرض، ولسان الصدق الذي أرسل عن الحق مراده للخلق، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، شعار هذا اليوم، ونشيد هذه الساحة، وترتاد هذا الركن، لبيك اللهم لبيك، ومن أولى بالتلبية.. منك يا رب العالمين، وقد خلقت الخلق بقدرتك، وأمددتهم بقيوميتك، وأنعمت عليهم بدينك، فلا لبيك إلا لك.

تنادي الأوطان.. وأنت تدعو، فأنت أولى بلبيك، وتمسك الأهل وأنت تدعو.. فلا يكون إلا لبيك، ويدعو المال والولد.. إلى أن يظل الإنسان حبيسهما، ولكن لا لبيك إلا لك، سبحانك.. ولا تقال إلا لك، لمن هذا الزحام والاحتشاد، لمن هذه الكثرة الهائلة، التي انصهرت فيها الأجناس، وذاب البياض فيها وذاب السواد، ولمن هذه الحشود التي تجتمع على هتاف واحد، لبيك اللهم لبيك، تسود فيه لغة القرآن ولا تساد، دعوة إبراهيم حين أذن بالحج، لباها عبادا مخلصون مؤمنون، قال الله أذن.. فأذن، فكان الإعجاز الخالد في الدنيا.. أن يكون مصداقا لقوله (يأتون).

سبحانك يا ربي.. خصصت هذا الركن العظيم، من حج بيتك، والوقوف في ساحة رحمتك.. بما لم تميز به ركن من الأركان، خصصته بشيء حكمت فيه بما يكون أن تقوم الساعة، كلفت بالصلاة، وكلفت بالزكاة، وكلفت بالصيام، وتركت العبيد أخيارا، فيما يختارون من طاعة تقربهم إليك، أو ابتعاد يبعدهم عنك، ولكنك سبحانك، حكمت في هذا الركن، أنه لا يكون حين يؤذن بالحج، إلا أن يأتي القوم رجالا وركبانا من كل فج عميق، ومصداق ذلك هذه الظاهرة العجيبة في دنيا الناس، نرى انصراف عن منهج الله في تكاليفه، ونري احتيالا على أن يتخلص الناس من عبودية التكليف في كثيرا من مسائل الدين، ولكن حين نراهم كذلك في كل هذا، نراهم يحرصون على هذا الركن، ويزدادون عليه إقبالا.. يضيق به كل توسع، ولا يمكن أن يأويه أي نظام.

الشعراوي: لأمر ما يا ربي جعلت شعار حجك لبيك

اللهم أنك قلت أذن.. فأذن، وقلت يأتوك.. فأتي القوم من كل فج عميق، سبحانك يا رب حين تريد أن يكون لا يكون هناك رادا لما تريد أن يكون، سبحانك يا ربي.. وما أصدق لهجة عبادك جميعا، حين يقولون لك، لبيك اللهم لبيك، ولماذا لا يكون لبيك لك يا ربي.. وأنت لا شريك لك، ولماذا لا نقول لبيك لك يا ربي.. والحمد لك، الحمد بكل صوره، الحمد بكل ألوانه، حتي الثناء على الأسباب، حتى الشكر للوسائط والوسائل، مرد الحمد فيها جميعا غليك يا رب، فالوسائط والوسائل والأسباب من خلقك، فإن أجريت عليها ما يأتي بالخير فأنت المجري يا رب، إذا لك الحمد أولا.. ولك الحمد آخرا.

سبحانك يا ربي، من لم يحمدك لأنك الذي خلقت ورزقت وأمددت بالنعم، من لم يحمدك لك ذلك فليحمدك لأن لك الملك، ولأنه لا معد له أن يلتقي بك في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم، لأمر ما يا ربي جعلت شعار حجك لبيك، حتى يكون شعار المؤمن في كل أمر تأمر به، وحتى ينطبع في ذهن المؤمن، وحتى يستقر في وجدان المؤمن، أن دعوتك لأي أمر من الأمور، أولى من دعوة أي خلق من خلق، مهما سمت منزلته، وعلا مركزه وعظم جاهه، سبحانك ولا تقال إلا لك، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك له لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

الشعراوي: عبوديتنا لك يا رب تعطينا خيرك

يا رب نسألك يا رب كل شيء، بقدرتك على كل شيء، أغفر لنا ولهؤلاء جميعا كل شيء، ولا تسألنا عن شيء، إنك يا ربي ما دعوة عبيك لزيارة بيتك، والوقف في ساحة رحمتك عرفات إلا وأنت تريد بهم الخير، وتريد لهم الرحمة، وكل داع نعرفه.. حين يدعوا مدعويه يعد لهم من الحفاوة ومن التكريم ومن التحف، ما يليق بسماحه، وما يناسب كرمه، وما تتسع له إمكانياته، فكيف إذا كان الداع هو الرب الذي يقدر على كل شيء، وما عندنا ينفد وما عند الله باق.

لو سألك كل هؤلاء في ساحة رحمتك، بل لو سألك كل المؤمنين بك في أرضك كلها، لو سألوك حوائجهم، فأعطيتها لهم، ما نقص ذلك مما عندك يا رب، إلا كما ينقص المخيط إذ غمس في البحر، وذلك أنك يا رب جواد، وأنك واجد، وأنك ماجد، عطائك كلام، وعذابك كلام، إنما أمرك لشيء إذا أردته أن تقول له كن فيكون، تجلياتك يا رب على خلقك، لتنظر هذه الضراعة الذليلة، والعبودية الخاشعة، ونعمة الذلة لك، ونعمة العبودية لك، لأنها عبودية تعز العبد، فالعبودية من الخلق للخلق، عبودية تأخذ خير العبد للسيد، وعبوديتنا لك يا رب تعطينا خيرك يا سيد.

الشعراوي: ثواب الحج على قدر المشقة

يا رب.. يا رب.. يا رب، نسألك بأنك الملك، وأنت على كل شيء قدير، وما تشاء من أمر يكون، يا رحمة الله، يا رضوان الله، يا تجليات الله، هؤلاء خلق الله، فاهبطي عليهم بالإشراق، وتنزلي عليهم بالصفاء، وارجعيهم مأجورين، مغفورا لهم، مجبورين.. مجابين الدعاء، لهم ولآلهم، ولأزواجهم، ولذرياتهم، ولأحبابهم، ولجميع المؤمنين والمؤمنات.

يا ربي أن رسولك الأعظم صلى الله عليه وسلم ليعطينا.. لا حفاوة البشر بالبشر، ولكن حفاوة الملائكة في ملئها الأعلى، يعطينا حفاوة الملائكة وهم مخلوقين لله، ونحن مخلوقين لله، إذن هي تحايا مخلوق لمخلوق، أنظروا إليها ايه القوم.. كيف يصورها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ملائكة الله في عليائها، وفي صفائها وفي طهرها وفي عبوديتها المكرمة، هؤلاء جميعا يتلقون ركبان الحجاج بالمصافحة، ولكنهم يتلقون الماشين بالعناق.

أنظروا كيف يجاز الله على قدر المشقة، أنظروا كيف لا تضيع حركة من حركات الإنسان في رضاء الله عند الله، ما اعظم ما نشهد، وما أجمل ما نرى، أهو الجلال يكسوه الخشوع، وتكسوه الذلة، أهو الجمال يكسوه الإشراق والبهاء، أم هو المزيج من الجلال والجمال، يذكر الناس هؤلاء ذنوبهم ويخشون ويخافون، ويذكرون رحمة ربهم فيفرحون، هنا وفي هذا المكان يمتزج الجمال بالجلال، سبحان يا ربي، ولا تقال إلا لك، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

الشعراوي يوضح علاقة الحج بأركان الإسلام

اللهي.. لست بإله استحدثناه، ولا برب ابتدعناه، ولا كان لك قبلك من إله، نلجأ إليه ونذرك، ولا عانك أحد على خلقنا، فنشركه فيك، سبحانك.. سبحانك.. سبحانك، لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت، حظ التلبية من التوحيد.. أن نشهد بك واحد، لا شريك له، وحظ جميع أركان الإسلام من الحج أن الصلاة له منه ذلك الحظ، نتوجه إلى بيتك كل صلاة، فهذا هو البيت، رأيناه رأيا العين، وطوفنا جميع جهاته.

واستلمنا حجره الأسود، ليشهد لنا يوم لقاؤك، وأما حظ الزكاة، فإن فيها البذل، وفيها السخاء، وفيها الأريحية، وفيها الزج ليطعم الناس، وليطعم الفقراء والمساكين، أما حظ الصوم من الحج.. فإنك يا ربي جعلت على المحرم محظورات، هذه المحظورات مباحة مع غير الإحرام، ولكنه ساعة يحرم.. تحرم عليه، وذلك لون من الإمساك.. الإمساك عما أحل الله، فكأن ركن الحج يا ربي.. ركن جمعت فيه الركان، مرموزا إليها، وممثلة فيه.

لهذا يا ربي، كان جزاؤك عليه أن يخرج الحاج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، سبحانك يا ربي.. حين تكلف خلق، تكلفهم بالفعل، ثم تترك لهم حرية الزمان، وقد تكلفهم بالفعل وتترك لهم حرية المكان، ولكن الحج، هو الركن الوحيد الذي اجتمع فيه الأمر بالفعل، والنهي عن المحظورات، في زمان مخصوص، ومكانا مخصوص، لذلك كان جزؤك عليه يا ربي خير ما تجاز به عباد.. جاؤوك.. شعثا.. غبرا، أوابين، أواهين، توابين، دامعين، خافقة قلوبهم، وأهنت أبدانهم، وهم لا يرجون إلا رحمتك، لا يرجون سواك، لأنه لا شريك لك، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك.. والملك لك شريك لك.

اللهم أنك قد أمرتنا أن نحج بيتك، فامتثلنا وقلنا لبيك، وأمرتنا أن نقف في ساحة رحمتك.. فقلنا لبيك، فكما لبينا دعوتك يا ربي.. لبي ضراعاتنا، وأغفر ذلاتنا، وارحمنا، وارضى عنا، اللهم ما مضى من ذنوبنا فاغفره، وما نستقبل من حياة غاستر عنا ذنوبها، اللهم أنا نسألك الخير من حيث تعلم أنه الخير..

أدعية الشعراوي على جبل عرفات

يا ربي.. يا ربي.. يا ربي، بقدرتك على كل شيء، أغفر لنا كل شيء، ولا تسألنا عن شيء، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك، سبحانك يا ربي ولا تقال إلا لك، حشد واجتماعا كل قلب فيه واجد، ولكن كل قلب فيه محمل، جاؤك وهم يثقون بكرمك، جاؤك وهم يثقون بعفوك، جاؤك ويحبوا أن يرجعوا إلى أهلهم على خير ما يرجع المسافر من هجرة لله  بتحية من الله، في نزل من الله.

يا ربي .. يا ربي.. يا ربي، نسألك بأنك الملك، وأنك على كل شيء قدير، وما تشاء من أمر يكون، اللهم أنك نسألك أن تعطينا من الخير ما تعلم أنه الخير لنا.. في ديننا، وفي دنيانا، وفي أهلنا، اللهم أنا نسألك أن ترزقنا جميعا حبك، وحب من ينفعنا حبه عندك، اللهم ما أعطيتنا مما نحب فأجعله قوة لنا فيما تحب، وما ذويته عنا مما نحب، فاجعله فراغا لنا فيما تحب.

وصايا الشعراوي للحجيج في بلادهم

يا ربي.. يا ربي.. يا ربي، نسألك بأنك الملك، وأنك على كل شيء قدير، وما تشاء من أمر يكون، جئنا يا رب كما وعدت، لنشهد منافع.. وقد شهدنا والحمد لله، شهدنا كيف يطبق الإيمان، وكيف يطبق الإسلام، وكيف يعيش المؤمن في منهج ربه شهرا من الزمن، أو أكثر أو أقل، فيجد فيه نفسه صفاء، وفي روحه إشراقا، وفي بدنه خفت للعبادة، إلا يدل كل ذلك على أن منهج الله.. إرساله دائما إشراق وصفاء، فلو أنكم ايه الحجيج حين تذهبون إلى بلادكم.. اصطحبتم منهج ربكم، كما تصطحبونه هنا، لا رفث ولا فسوق ولا جدال، الإنسان في سلاما مع نفسه، فلا عدوان حتى على شعرة، والإنسان في سلاما مع النبات.. فلا تعضض حتى شجرة، والإنسان في سلاما مع الحيوان، فلا يصاد في هذا المكان.. ما احل له في غير هذا المكان.

 أدب مع كل الوجود، أدب مع النفس، أدب مع الجماد، أدب مع النبات، أدب مع الحيوان، أدب ينتظم أتساق الوجود كله، وانسجام الكون جميعه.


مواضيع متعلقة