الجيران وحارس العقار: كان راجل طيب ونفسه حلوة.. وكان بيحب الغلابة قوى

الجيران وحارس العقار: كان راجل طيب ونفسه حلوة.. وكان بيحب الغلابة قوى
تقف بلونها القاتم بهدوء وشموخ اعتادته، تطل على نهر النيل، فتكتسب شيئاً من الغموض عند انكسار الشمس على واجهتها الرئيسية، بالرغم من شكلها الذى لا يختلف عن البنايات المحيطة بها، يعرف الجميع الطريق إليها بمنتهى السهولة، فبمجرد السؤال يسارع الجميع بالرد بجملة واحدة «أول عمارة اللى قدام البحر دى على طول»، فتعرفها بمجرد أن ترى لافتة زرقاء على وجهتها الغربية استقر عليها بخط واضح «شارع نجيب محفوظ».
درجات قصيرة تفصلك عن مدخل بناية بأدوارها الاثنى عشر، تجد الهواء البارد يندفع إليك حين تدلف من الباب النحاسى الضخم، ليتناسب مع الرخام الأسود الذى يحيط أرض المدخل وسقفها العالى، فتجد انعكاسك يظهر على مرايات قديمة يكسوها الغبار.. فى الدور الأرضى باب وقضبان حديدية تحيط بمنزل الأديب الراحل.
«فين أيام أستاذ نجيب الله يرحمه» كلمات بسيطة مقتضبة بدأ بها عم سيد، حارس عقار الأديب الراحل نجيب محفوظ، حديثه عنه، ليتابع الرجل الأربعينى بسمرة اكتسبها خلال عمله كحارس للعقار لمدة تجاوز العشرين عاماً، «كان راجل محترم جداً وفى حاله بيقابل الجميع بابتسامة ودودة وكان يحب يتمشى كل يوم الساعة ستة بالليل ويرمى السلام على الناس اللى قاعدة». بدأت الضحكة تغزو وجه عم سيد لتكشف عن صفى أسنانه عندما تذكر زيارات الأدباء والفنانين خلال حياة محفوظ، قائلاً «أنا وقتها كنت صغير يعنى بتاع 15 سنة كدة ولا حاجة بس شفت ناس كتير بتزوره، أحمد زكى الله يرحمه ونور الشريف جه كذا مرة، ومحمد هنيدى ووائل نور وناس كتير أوى مش فاكر مين ولا مين»، وتابع «كمان سوزان مبارك جت هنا بعد وفاته عشان تعزى بناته ويومها الشارع اتقلب».
مضيفاً أنه لم يستطع أن يميز مجموعة كبيرة من الأدباء والمثقفين، إلا أن الشاعر عبدالرحمن الأبنودى كان من أكثر الناس زيارة له خاصة بعد حادثة الاغتيال، «كان بيته مفتوح لكل الناس، والصغير قبل الكبير»، ليؤكد أن بعد وفاته انقطعت الزيارات التى كانت تملأ حياة الشارع فى حين اقتصرت على عدد قليل من أصدقاء الكاتب القدامى وبعض أفراد الأسرة».
فى مدخل البناية الواسعة ترى فى نهايتها مصعدين كهربائيين، لتجد شقة الأديب الراحل فى الدور الأرضى، يقبع أمامها كرسيان وطاولة، يقول عم سيد إنها ترجع إلى طقم الحراسة الذى كان مكلفاً بحراسة الأديب الراحل بعد حادثة الاغتيال، والذى استمر حتى بعد وفاته بعدة أيام، وعندها تابع قائلاً «الحادثة حصلت له قدام البيت، كل الناس زعلت ولما رجع من المستشفى مجموعة كبيرة راحت له عشان تطمن عليه وأنا كنت معاهم».
يكمل حارس العقار حديثه لتغزو نبرات الحزن كلامه، عندما يتذكر وضع الشارع قبل وفاة محفوظ، «كان فيه نظام فى الشارع، وكل واحد كان واخد وضعه، ماكنش فيه الاستهتار والفوضى الموجودة دلوقتى»، ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط بل امتد ليشمل محل المأكولات السريعة المجاور للبناية الذى وضع شفاطاً ضخماً للرائحة يصدر صوتاً عالياً فى مدخل العمارة، ليرى عم سيد «عمرهم ما كانوا يستجروا يعملوا كده والأستاذ موجود».
تتذكر السيدة الخمسينية، إحدى ساكنات العقار، ذكرياتها مع عائلة نجيب محفوظ، «هما عيلة طيبة ومحترمة، طول عمرهم فى حالهم وفوق كل ده، أستاذ نجيب الله يرحمه كان راجل ذوق جداً، وكنا محظوظين إن حد بحجم الأديب الراحل كونه أول مصرى ياخد جايزة نوبل يكون وسطنا»، وتؤكد أنه منذ وفاته حتى الآن ما زالت زوجته السيدة عطية وبناته مقيمين فى المنزل بشكل كامل. أمام العقار بالتحديد فى شارع «النيل» تجد عم إبراهيم، يجوب المكان بزيه البرتقالى الشهير لعمال النظافة وعمامته البيضاء التى استقرت فوق رأسه،. «راجل شهم وجدع وإيده فرطة بالخير كله»، هكذا بدأ الرجل الستينى كلامه ولم يستطع السيطرة على عينيه اللتين بدأت الدموع فى غزوهما، «لما يشوفنى كان بيرمى عليَّا السلام عشان كان بتاع الناس الغلابة».