مستجدات المائة يوم الثانية من الحرب الروسية
بعد انقضاء المائة يوم الأولى من الحرب الروسية الأوكرانية، وهذا الصراع المحتدم الذى لا تبدو هناك مؤشرات كافية يمكن أن تنقله إلى درجة سخونة أقل. فمع دخول الأطراف التى لم تنهك بعد المائة يوم الثانية، كان مثيراً أن كل طرف صارت له حزمة جديدة من الأهداف التكتيكية، يرى أنها تقترب به إلى تحقيق هدفه الاستراتيجى من الحرب. لهذا يمكن تتبع هذه المستجدات حيث يمكنها أن تصل فى النهاية لرسم صورة كلية لوضع كل طرف وإلى أين يمكنه أن يمضى خلال الفترة المقبلة.
الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون أثار تفاعلاً واسعاً بعد دعوته إلى «عدم إذلال» روسيا وترك المجال مفتوحاً أمام الدبلوماسية لحل الأزمة الأوكرانية، كان هذا فى حديثه لبعض الصحف الفرنسية خلال نهاية الأسبوع الماضى، معبراً أيضاً أنه على قناعة بأن فرنسا سيكون لها دور فى وساطة مرتقبة. لكنه حرص فى الوقت ذاته على قوله للرئيس بوتين بأنه يرتكب خطأ تاريخياً وأساسياً لشعبه ولنفسه وللتاريخ. المؤكد أن الرئيس الفرنسى مقتنع بشكل كبير أن هناك حلاً ممكناً، وربما ينتظر اليوم الذى يتوقف فيه القتال كى يمكنه «بناء منحدر» -بحسب تعبيره- للخروج بالطرق الدبلوماسية، ويرى فرنسا جاهزة وجديرة لصناعة هذه المخارج للرئيس الروسى. ولهذا بدأت المائة يوم الثانية من عمر الصراع، باتصال هاتفى ثلاثى بين قادة كل من فرنسا وألمانيا والرئيس بوتين، استغرق 80 دقيقة وهى مدة كافية كى يطرح كل منهم رؤيته كاملة فضلاً عن أولوياته ومساحات الحركة المتوقعة من وجهة نظر كل رئيس.
بحسب مكتب المستشار الألمانى، زعيما الاتحاد الأوروبى أصرا على وقف فورى لإطلاق النار وانسحاب القوات الروسية من أوكرانيا، كما حثا بوتين على أهمية إيجاد حل دبلوماسى للصراع. وهما هنا لا يقصدان تكرار دعوة روتينية بقدر ما يحملان على ما يبدو عرضاً لمخرج دبلوماسى، ينتظران تجاوب الرئيس بوتين معها حيث يتعهدان بالعمل عليها وإنجازها مع شركاء معسكرهم. لكن بوتين بدا معنياً بأمور أخرى لها علاقة بإمداد أوكرانيا بالسلاح حيث يعتبره «أمراً خطيراً»، محذراً من أن هذا الفعل منتج لمزيد من المخاطر وزعزعة الاستقرار وتفاقم الأزمة الإنسانية. كما عرض عليهما أنه مستعد للبحث عن سبل لشحن الحبوب العالقة فى الموانئ الأوكرانية، مساهمة من روسيا فى حل أزمة الغذاء العالمية، كما تعهد بزيادة المعروض من الأسمدة والمنتجات الزراعية الروسية، التى يرى أنها ستساعد فى تقليل التوترات فى سوق الغذاء العالمية، لكن الأمر سيتطلب بالطبع رفع العقوبات ذات الصلة عن روسيا. نتائج الاتصال إذن لا يجوز اعتبارها حاسمة، لكنها تحمل ملامح لانفراجة أفكار وإرادات لم تكن حاضرة فى المائة يوم الأولى على الأقل.
على الجانب العملياتى؛ وهو العامل المحرك والمهيئ لساحة التفاوض إن قدر لها البدء ولو جزئياً، تبدو الصورة على نحو مغاير إلى حد كبير. فمع بداية المائة يوم الثانية شنت القوات الروسية هجمات مكثفة عادت لتضرب العاصمة «كييف»، بعد أشهر من انسحابها عن هذا المحور وتمتعه بهدوء نسبى. الهجمات طالت بنى تحتية للسكك الحديد فى كييف، كما أعلن من الجانب الأوكرانى عن انفجارات عدة فى منطقتى «دارنيتسكى ودنيبروفسكى» فى جنوب شرق العاصمة، تبين لاحقاً أنها استهدفت مصانع للمؤسسة العسكرية الأوكرانية. لم يقف الأمر عند حد القصف، بل كان مهماً من جانب روسيا أن تكشف أنها عبر ضربات جوية وصاروخية بعيدة المدى، تمكنت عبر هذا القصف الأخير من تدمير دبابات من طراز (تى-72) قدمتها دول من أوروبا الشرقية ومدرعات أخرى كانت فى الحظائر الأوكرانية. وأعقب ذلك تحذير شديد اللهجة من الرئيس بوتين، ربما ينقل «قواعد الاشتباك» لمستوى أبعد مما كان عليه خلال المائة يوم الأولى. ففى مقابلة للرئيس الروسى مع محطة روسيا-1 التليفزيونية الرسمية، ذكر أنه فى حال بدأت الولايات المتحدة فى تزويد أوكرانيا بصواريخ مداها أطول، «سنقصف تلك الأهداف التى لم نبدأ فى ضربها بعد». ولم يذكر بوتين كعادته الأهداف التى تعتزم روسيا استهدافها، فى حال بدأت الدول الغربية فى إمداد أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى.
وزارة الدفاع البريطانية دخلت مؤخراً هى الأخرى على خط ما يجرى فى مدينة «سيفيرودونتسك» التى تشهد هجوماً عنيفاً منذ أسابيع، تقوم به القوات الروسية من أجل إتمام السيطرة على محور شرق أوكرانيا. غردت الوزارة البريطانية عبر حسابها الرسمى على تويتر، أن القوات الأوكرانية شنت هجوماً مضاداً لاستعادة السيطرة على مدينة سيفيرودونتسك التى تمكنت القوات الروسية من اقتحامها، والاستيلاء على قسم كبير منها وقسمتها إلى قسمين، كما أكدت أن روسيا تلقى بكل ثقلها فى المدينة التى تشهد «معارك شوارع» طاحنة. لكنها نشرت -بحسب تقارير الاستخبارات العسكرية البريطانية التى أثبتت دقتها فى كثير من أحداث تلك الحرب- أن الجيش الروسى يستخدم فى هذه المدينة الحاسمة استراتيجياً بالنسبة له، قوات مشاة عميلة فى عمليات تطهير المناطق الحضرية، وهو تكتيك روسى لوحظ اعتماده سابقاً فى سوريا، مضيفة أن هذا النهج يشير على الأرجح إلى الرغبة فى الحد من الخسائر التى تكبدتها القوات الروسية النظامية، خلال القتال على هذا المحور الذى يضم مدينتى «ماريوبول» و«ليسيتشانسك». وفى حال النجاح الروسى فى إتمام هذا الجهد العسكرى المكثف على تلك الجبهة، سيتم إجهاض ما تقوم به الوحدات الأوكرانية التى شرعت فى بناء خطوط دفاع جديدة، ووصلها شحنات سلاح متطور القذائف تسبب فعلياً فى إيقاع خسائر بالجملة فى صفوف الجيش الروسى.
لكن تبقى معادلة القوى فى صالح القوات الروسية التى لن تفلت هذا الهدف من يدها تحت أى ظروف قتال، فهو بالنسبة لها يمثل إتمام السيطرة على كامل حوض «الدونباس» الذى يضم منطقتى دونيتسك ولوجانسك، بعدما ظلت سيطرة الانفصاليين الموالين لموسكو عليه جزئياً وناقصة منذ العام 2014، والأهم استراتيجياً أنه يحقق لروسيا الاتصال البرى لأول مرة مع شبه جزيرة القرم.