قلق ما بعد انتخابات لبنان

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

رغم كل الصعوبات التى يمر بها لبنان، والضغوط الخارجية والتمويلات الكبرى للمرشحين، والمناوشات التى حدثت بين أنصار المرشحين المتنافسين فى عدد كبير من مراكز الاقتراع، جرت الانتخابات النيابية بطريقة مقبولة من كل الأطراف. وفى ضوء بعض النتائج الأولية التى أُذيعت رسمياً تبدو فرصة تغيير الخريطة الحزبية فى البرلمان الجديد محدودة إلى حدٍّ كبير، صحيح حدثت بعض نتائج مثيرة من قبيل سقوط شخصيات محسوبة على التيار الوطنى الحر وحزب الله، أو متعاونة معهما من الدروز أو من أحزاب قومية صغيرة، وأبرزهم الأمير طلال أرسلان عن الدروز، ورئيس حزب التوحيد وئام وهاب فى الجبل، والنائب فيصل كرامى فى طرابلس. كما ارتفعت المقاعد التى حصل عليها نواب جُدد غير محسوبين على القوى السياسية التقليدية، وبعضهم ينتمى إلى ما يوصف بقوى الثورة والتغيير ورفض النخبة السائدة، والمنسوبون إلى حراك صيف وخريف 2019، وربما يصل عددهم إلى ثمانية مقاعد من بين 128 مقعداً تمثل إجمالى البرلمان.

جرت الانتخابات كما هو معروف فى ظل مقاطعة تيار المستقبل الذى يعبّر عن النسبة الأكبر من السنة، وهو القرار الذى أراد به زعيم التيار سعد الحريرى أن يضع الجميع أمام إشكالية كبرى تتعلق بشرعية الانتخابات من جانب، والتأثير على طريقة اختيار رئيس الوزراء الجديد، الذى يجب أن يكون سنياً وفقاً للدستور المعمول به من جانب ثانٍ. ومعروف أن قرار المقاطعة عبّر فى جانب كبير منه عن غضب شخصى للحريرى واستياء لتيار المستقبل ككل، نتيجة العراقيل الكبيرة التى واجهته عند تشكيل الحكومة قبل عامين ولم يتمكن من تشكيلها، مما اضطره إلى الاعتذار والابتعاد عن العمل السياسى مؤقتاً. لكن بعض أفراد انتموا إلى تيار المستقبل فى السابق، ترشّحوا فى الانتخابات كأفراد وليسوا كأعضاء بتيار المستقبل. ومنهم من فاز بالفعل بسبب تحالفه مع قوى سياسية تقليدية من المسيحيين أو ما يُسمى بالتيار العلمانى، ولا يبدو أن منهم شخصية بارزة يمكن أن تمثل التيار السنى، وتكون مرشحة لرئاسة الوزراء حين يأتى وقت الاختيار لهذه المهمة الشاقة.

النتائج المتاحة للكثير من الدوائر الانتخابية تشير إلى ثلاث نتائج مهمة؛ أولاها أن حزب الله وحلفاءه، وأبرزهم حركة أمل برئاسة نبيه برى، والتيار الوطنى الحر برئاسة جبران باسيل، لن يتمكنوا من الفوز بأكثر من 64 مقعداً، وهو عدد أقل من الأغلبية التى تحقّقت لهم فى الانتخابات الماضية بإجمالى 71 مقعداً، أتاحت لهم التأثير الكبير والمباشر على أداء البرلمان والحكومة والمؤسسات السيادية المختلفة، مما يجعلهم مسئولين عن كل أبعاد الأزمة الطاحنة التى يعيشها لبنان ووصلت إلى قمتها فى الأشهر الماضية.

بيد أن فقدان الأغلبية (50% زائد أو أكثر) لا يعنى أن تأثير هذا التحالف إن اتفقت عناصره على استمراره فى البرلمان الجديد، أو حتى لم تتفق على استمراره، قد يعنى فقدان التأثير على مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية فى لبنان. ويرجع ذلك إلى ما تملكه هذه القوى من عناصر قوة طائفية من جهة، ومن امتلاك حزب الله ترسانة أسلحة كبيرة بعيدة عن سيطرة الدولة، وتثير الكثير من الإشكاليات للبنان ككل، سواء فى مواجهة القوى السياسية التى تناوئ الحزب وتعتبره سبباً رئيسياً لكل مشكلات لبنان فى الداخل والخارج، أو فى مواجهة القوى الدولية والإقليمية التى تمارس أشكالاً مختلفة من التأثير السياسى على مجمل الشأن اللبنانى.

النتيجة الثانية تتعلق بالانقسام المسيحى المارونى، وتبدل المواقع بين حزب القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع والتيار الوطنى الحر، لصالح القوات التى حصدت ما يقرب من 22 مقعداً، مما يجعل الحزب الممثل الأكبر للمسيحيين الموارنة. وتشكل تلك النتيجة ضربة كبرى للتيار الوطنى من جانب، وللرئيس ميشال عون مؤسس التيار من جانب آخر، خاصة من زاوية الاستعداد للانتخابات الرئاسية المقرّرة فى نوفمبر المقبل، حيث كان الرئيس عون يراهن على فوز التيار بعدد كبير من المقاعد، بحيث تدعم مكانته فى تحديد اسم الرئيس المقبل، وتحديداً صهره جبران باسيل.

فى ضوء تبدّل المواقع، وبروز مكانة القوات فى القطاع المسيحى المارونى، فمن المرجّح أن يكون لرئيس الحزب سمير جعجع صوت أكبر فى اختيار الرئيس المقبل، كما سيكون له تأثير أكبر فى عمل البرلمان، وفى تشكيل الحكومة الجديدة، إذا ما اتّفق على شخصية سنية تكون مقبولة من القوى السياسية الكبرى. ووفقاً لمواقف الحزب المناهضة تماماً لفكر وأيديولوجية وسياسات حزب الله، فمن المنتظر أن تكون وثيقة عمل الحكومة الجديدة حال تشكيلها مثار جدل كبير فى البرلمان، لا سيما ما يتعلق بمفهوم المقاومة التى يتمسّك بها حزب الله فى أى وثيقة عمل للحكومة، وبما يمنحه الأساس الشرعى لتمسّكه بالسلاح بعيداً عن الجيش والمؤسسات السيادية معاً. وهو وضع غير مقبول من قِبل القوات ومرفوض تماماً. كما سيمتد الجدل الحاد حول السياسة الاقتصادية والإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد الدولى قبل الاتفاق على خطة الدعم والمساندة للبنان، وكذلك العلاقات الخارجية للبنان، حيث يؤكد حزب القوات ضرورة محاصرة التأثير الإيرانى عبر حزب الله، وفتح المجال أمام تحسين العلاقات اللبنانية مع العالم الخارجى، وفى المقدمة الدول العربية والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، وهى القوى التى تحفّظت على الكثير من السياسات اللبنانية فى الأعوام الماضية. والمؤكد أن التوصّل إلى وثيقة عمل الحكومة الجديدة سيواجه الكثير من العراقيل والجدل والصياح السياسى، مما سيؤخر تشكيل الحكومة ذاتها، وهو ما سيصب فى إطالة زمن المعاناة لكل لبنانى.

النتيجة الثالثة، وهى ذات شقين؛ الأول أن مجمل النظام السياسى والقانون الانتخابى والمصمّم أساساً على التقاسم الطائفى للمناصب والوظائف، لا يسمح بالكثير من اختراقات القوى الجديدة ذات الطابع الشبابى على حساب القوى السياسية التقليدية. ورغم تأكيد كل عناصر النخبة اللبنانية على ضرورة التغيير وتأسيس لبنان على قواعد سياسية ودستورية جديدة، فلا يعدو الأمر سوى خطاب دعائى لا أكثر.

أما الشق الثانى فيتعلق بمحدودية تأثير القوى الشعبية التى تصف نفسها بالثورية والرافضة لمجمل أحوال لبنان المتدهورة، إذ لم تستطع أن تشكل لنفسها هيكلاً جامعاً يساعدها على إحداث تأثير ملموس فى الواقع السياسى، وغلبت على تحركات بعض قياداتها نرجسية سياسية وقلة خبرة فى العمل السياسى، لاسيما فى إنشاء التحالفات الانتخابية الضرورية، مما يفسّر محدودية المقاعد التى حصدتها تلك العناصر.