العراق.. اجتياز عاصفة المجهول السياسى
بعد انقضاء العيد شهِد العراق مبادرتين فى محاولة لكسر الانسداد السياسى، الذى يخيم على المشهد منذ سبعة أشهر، إثر إعلان نتائج الانتخابات. نصوص الدستور حددت إجراءات وفق مدد زمنية لانتخاب الرئاسات الثلاث، إلا أن كل هذا أطاحت به المناورات والمراوغات بالتلاعب على ثغرات نصوص الدستور من طرف كتل تنتمى بالتبعية إلى أجندات دول إقليمية ما زالت ترفض التخلى عن سيطرتها على المشهد السياسى والأمنى. هذه الكتل التى تجمعت تحت مسمى «الإطار التنسيقى للقوى الشيعية»، لم يحتمل قادتها الخسائر الفادحة التى منيت بها فى الانتخابات الأخيرة، طرحت مبادرة قديمة - جديدة فيما زعمت أنها تسوية للأزمة السياسية، لم يخرج ما تضمنته عن سياق المحاصصة والطائفية التى يرفضها تيار الزعيم الشيعى مقتدى الصدر الفائز بأكبر عدد من مقاعد البرلمان فى الانتخابات ويتمسك بتشكيل حكومة أغلبية وطنية، بعدما أثبتت الحكومات التوافقية فشلها اعتماداً على نظام المحاصصة الطائفية فى بناء عملية سياسية تحتوى مختلف أعراق وأطياف العراق. المبادرة لم تخرج عن صيغة إنشائية لإملاءات إقليمية حملها عدد من مسئولى هذه الدول خلال زيارات مكوكية بين بغداد وإقليم كردستان. هذه التحركات الدبلوماسية أثارت غضب الشارع العراقى الذى ما زالت تسوده حالة ترقب دون التخلى عن بديل الخروج إلى الشوارع فى تكرار لسيناريو أكتوبر 2019 وإعادة فرض مطالبه المشروعة.
المبادرة هى بمثابة رد خائب على مناورة وضعت الكرة فى ملعب الإطار التنسيقى، حين أمهل مقتدى الصدر فى أول أيام رمضان هذه الكتل 40 يوماً للتباحث مع الأحزاب الأخرى -باستثناء قائمته- لتشكيل حكومة، بالفعل فشل البرلمان مرتين فى اكتمال النصاب القانونى لانعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية تمهيداً لتكليف رئيس حكومة من الأغلبية تتم الموافقة عليه من البرلمان.
فى مقابل مراوغات الإطار التنسيقى، دعا مقتدى الصدر بدوره النواب المستقلين لتشكيل كتلة والانضمام إلى التحالف الأكبر لتشكيل حكومة أغلبية وطنية، وهو تحالف «إنقاذ وطن»، الذى يضم بالإضافة إلى الكتلة مقتدى الصدر أكبر كتلتين للسُنة والحزب الديمقراطى الكردستاتى. النواب المستقلون بادروا إلى عقد اجتماعات مكثفة فى استجابة للرسائل الموجهة إليهم. لعل أبرز ما أسفرت عنه اللقاءات رغبة المستقلين فى المساهمة الفاعلة ولعب دور محورى لتخطى أزمة رئاسة الوزارة، مع عدم ترشيح اسم محدد للمنصب من المستقلين. إذ تم الاتفاق على دعم مؤهلات ومواصفات محددة.. استقلال المرشح وعدم الانتماء إلى إحدى الكتل أو الأحزاب المشاركة سابقاً فى حكومات المحاصصة الطائفية.
استمرار ضبابية المشهد السياسى وعدم التوصل إلى أى حلول ينص عليها الدستور العراقى فى ظل الخلافات السياسية، أثار هواجس بعض ساسة العراق حول دخول واشنطن على ترتيبات تشكيل الحكومة المقبلة. فى ظل عواصف الركود الاقتصادى والاستقطاب السياسى الحاد السائدين على المشهد الأمريكى، تصاعدت مخاوف من خضوع الرئيس بايدن للابتزاز الذى تمارسه أطراف إقليمية على الإدارة الأمريكية المتلهفة إلى إحياء الاتفاق النووى مع هذه الأطراف، بالتالى تكون التنازلات الأمريكية لها هى إدخال العراق مرة أخرى إلى الإملاءات الدولية والإقليمية مقابل أى «ورقة» يستطيع بايدن تقديمها للرأى العام بعد هبوط شعبيته ونسب الرضا عن أداء إدارته إلى أدنى مستوى، خصوصاً أن رسائل «الغزل» الولائى من جانب قادة الإطار التنسيقى بكل أجنداته الإقليمية لم تنقطع عن بايدن منذ دخوله البيت الأبيض، أملاً فى استعادة أجواء تشكيل الحكومات العراقية خلال فترة رئاسة باراك أوباما وقياساً على أن كل التفاهمات الإقليمية - الأمريكية تمت خلال تولى الحزب الديمقراطى حكم البيت الأبيض. يبقى الرهان على استبعاد هذه المخاوف معلقاً بقوة استمرار تماسك التحالف الثلاثى «إنقاذ وطن».
حجم التجاذبات الدولية - الإقليمية يُعيد طرح رئيس الوزراء مصطفى الكاظمى كأفضل خيار توافقى بين جميع الأطراف، خصوصاً أن لقاءاته مؤخراً لم تستثن كتلة سياسية فى محاولة لكسر الجمود السياسى. الكاظمى خلال رئاسته للوزارة تجنب النهج الصدامى، مفضلاً التمسك بسياسة الاحتواء مع كل الأطراف، ثبات تمسك الكاظمى بالحوار الدبلوماسى رغم كل محاولات الإقصاء التى تعرض لها ليس فقط من رئاسة الوزارة بل من المشهد السياسى كله، ما يجعل حالة التوازن التى يمثلها بقاء الكاظمى الأنسب على المستوى العربى، والإقليمى، والدولى.