الجريمة فى الأمثال الشعبية (4)
فى إطار هذه السلسلة من المقالات عن «الجريمة فى الأمثال الشعبية»، ما زال الحديث ممتداً عن الأمثال ذات الصلة بجريمة السرقة، حيث نتناول فى هذا المقال أحد الأمثال الشعبية المتداولة كثيراً على الألسنة، وهو «المال السايب يعلم السرقة». وهذا المثل معروف فى بعض الدول العربية، مع تعديل بسيط فى الصياغة، بحيث تجرى عباراته كما يلى: «الرزق السايب يعلم الناس الحرام». وقصة هذا المثل تعود إلى أن بعض الأشقاء من ملاك الأراضى الزراعية أوكلوا إلى أحد المزارعين مهمة رعايتها وخدمتها مقابل حصة يأخذها من الثمار والمزروعات. ولأن الملاك كانوا يسكنون فى مدن بعيدة عن مكان الأرض المملوكة لهم، لذا كانوا لا يرتادون هذه الأرض، ولا يعلمون شيئاً عنها، مكتفين بما يرسله المزارع إليهم، مصدقين ما يدعيه لهم بأن الأرض لا تنتج من الثمار الكثير، وذلك خلافاً للحقيقة حيث كانت الأرض تنتج الكثير من الثمار. ومع ذلك، كان المزارع لا يبعث إليهم سوى الفتات، مستأثراً لنفسه بالنصيب الأكبر. وبعد مرور عدة سنوات على هذه الحال، تصادف أن التقى أحد الملاك مع أحد سكان القرية، فسأله عن أحوال القرية وحال الأرض المملوكة لهم، متسائلاً عما إذا كان العطش فعلاً قد أهلك الزرع، ففوجئ بأن الأمر مختلف تماماً وأن الخير يعم القرية منذ عدة سنوات، وأن أراضيهم تطرح ثماراً طائلة، وأن الفلاح الذى يخدمها قد اغتنى ويكاد يملك معظم أراضى القرية، بسبب ما يأخذه من وراء زراعة أراضيهم. وإزاء ذلك، ومن هول المفاجأة، أخذ هذا المالك يضرب كفاً بكف، ملقياً باللوم كله على نفسه وعلى أشقائه، قائلاً إن «المال السايب يعلم السرقة»، ومعترفاً ومقراً بالتالى بأنهم من أخطأوا بثقتهم العمياء فى الفلاح، دونما أدنى رقابة أو متابعة من قبلهم.
وكلمة «السايب» فى هذا المثل مقصود بها الإهمال واللامبالاة وانعدام الرقابة والمحاسبة. وينبغى التمييز بين هذه الحالة وحالة «المال المفقود»، حيث يكون المال قد خرج من حيازة صاحبه، دونما أى إرادة من جانبه، وأصبح خارجاً عن حيازته لا يعلم عنه شيئاً، وقد يتحقق ذلك دون أدنى تقصير أو إهمال من جانبه. كذلك، ينبغى التمييز بين حالة «المال السايب» وحالة «المال المتروك». إذ يؤكد شراح القانون المدنى أن المنقول يصبح بغير مالك، إذا تخلى عنه مالكه بقصد التخلى عن ملكيته. فالشىء المتروك هو ما استغنى عنه صاحبه بالتخلى عن حيازته، وبنية إنهاء ملكيته عليه، فيعتبر بعد ذلك لا مالك له. وقد عرفت محكمة النقض المصرية «المال المتروك» بأنه «الشىء الذى يستغنى عنه صاحبه بإسقاط حيازته، وبنية إنهاء ما كان عليه من ملكية، فيغدو بذلك لا مالك له». فإن استولى عليه شخص آخر، لا يعتبر سارقاً. ومثال الأشياء المتروكة الملابس التى تخلى عنها أصحابها، والأمتعة البالية التى يرميها أو يلقيها أصحابها فى الطريق العام. فمن عثر على شىء فى الطريق من قبيل المهملات وأخذه، فلا يعد سارقاً.
وإذا كان مالك الأرض فى هذه القصة قد استخدم لفظ «السرقة»، فإن السلوك الإجرامى المنسوب إلى المُزارع أو الفلاح فى هذه الحالة هو «خيانة الأمانة»، وليس «السرقة». إذ تفترض جريمة السرقة انتزاعاً للشىء من حيازة مالكه، الأمر الذى لا يتوفر فى قصة المثل سالف الذكر. فى المقابل، فإن جريمة خيانة الأمانة تفترض أن المال المنقول موضوع الجريمة كان من قبل فى حيازة الجانى، بناء على سبب مشروع، وأنه قد سلم إليه تسليماً صحيحاً صادراً عن إرادة معتبرة قانوناً. ويقوم الركن المادى لجريمة خيانة الأمانة بفعل يكشف عن إرادة المتهم تحويل صفته على الشىء من أمين عليه لحساب صاحب الحق فيه إلى مغتصب لملكيته.
وعلى كل حال، وإذا كان القصد من وراء المثل الشعبى القائل إن «المال السايب يعلم السرقة» هو حث أصحاب الأموال على المحافظة على أموالهم، فلا يتركونها نهباً لكل طامع فيها أو من تسول له نفسه الاعتداء عليها، وذلك من خلال بسط الرقابة والإشراف عليها، وبحيث لا تكون لقمة سائغة لمن سلموهم إياها، فإن البعض قد يرى فيه نوعاً من التحريض لأصحاب النفوس الضعيفة بأن يستحلوا أموال الآخرين، وأن يستسلموا لنزواتهم وأطماعهم، ما دام صاحب المال لا يدرى أى شىء عنه، وأن الفرصة سانحة للاستيلاء عليه.
وأخيراً، فإن هذا المثل يُضرب للتأكيد على ضرورة الحفاظ على الأموال وتكثيف الرقابة عليها، حتى لا تكون عرضة للسرقة. وثمة بعض الأمثال الشعبية الأخرى التى تصب فى المعنى ذاته، نذكر منها المثل الشعبى القائل «حرص ولا تخون». وتستخدم بعض الشعوب العربية مثلاً شبيهاً، وهو «اقفل باب دارك وما تخوّنش جارك». ويقال هذا المثل فى حالة تقديم النصيحة بضرورة التعامل مع الآخرين بحرص وحذر، دون أن يصل الأمر إلى حد التخوين. وكما هو واضح، فإن هذا المثل يؤكد أهمية الحذر فى التعامل مع الأشخاص، مميزاً بين فضيلة الحذر أو الحرص ورذيلة التخوين والشك بالأشخاص.