سدود إثيوبيا واحتكار المياه والطاقة (2-2)

إثيوبيا يزيد تعدادها السكانى على مصر قليلاً، ولكن نسبة عدد سكانها الذين يتمتعون بخدمة الكهرباء لا يزيدون على 15-20% من إجمالى السكان، وإجمالى استخداماتها السنوية من الكهرباء لا يتعدى 4000 جيجاوات ساعة. والسودان على صعيد آخر يستهلك شعبه كمية تزيد قليلاً على استهلاك الشعب الإثيوبى فى حدود 4500 جيجاوات ساعة سنوياً، ولكن تعداد سكان السودان يقل بحوالى 60% عن تعداد الشعب الإثيوبى، أى إن خدمات الكهرباء لديه تزيد على ضعف خدمات الكهرباء المتوفرة فى إثيوبيا. وفى مصر يتمتع ما لا يقل عن 97% من السكان بالخدمات الكهربية، وإجمالى الاستخدامات السنوية للدولة يصل إلى 130000 جيجاوات ساعة، أى حوالى 33 مرة استهلاك الشعب الإثيوبى من الكهرباء. وإثيوبيا تصدّر حالياً الكهرباء للسودان وسوف تصدر لها أيضاً مستقبلاً، وتمنح إثيوبيا السودان أسعار كهرباء تشجيعية، مما يثير تساؤلاً عن الهدف من هذه الأسعار التشجيعية، وما المقابل المنتظر من السودان نظير ذلك. وهناك مخاطر أمنية قد تعوق مشاريع الربط الكهربائى مابين إثيوبيا وكل من مصر والسودان، فلا يوجد ضمان لسلامة خطوط وأبراج نقل الكهرباء المارة بأراضى إثيوبيا والسودان. ومما يثير الحيرة والتعجب، أن دولة مثل إثيوبيا التى يعانى شعبها أشد المعاناة من نقص الطاقة تقوم ببناء سدود عملاقة مرتفعة التكاليف لإنتاج الطاقة وتصديرها إلى دول أخرى تتمتع شعوبها بقدر كبير من خدمات الطاقة. هل من المقبول مثلاً أن يتباهى وزير المياه والطاقة الإثيوبى، أثناء زيارته الأخيرة لمصر، ويقول إن إثيوبيا تستطيع حل أزمة الطاقة المصرية من خلال إنتاج سدودها من الكهرباء، بينما 80% على الأقل من مواطنيه محرومون من هذه الخدمة الأساسية. وهل من المعقول أن دولة مثل إثيوبيا تعانى من أزمات اقتصادية، وتعتمد برامجها التنموية بل وخدماتها الأساسية على مليارات الدولارات التى تأتيها من الغرب سنويا، أن تبنى سداً ضخماً مثل سد النهضة تنفق عليه مليارات الدولارات بينما كفاءته فى توليد الكهرباء تقل عن 30%. بل إن زيادة سعة وارتفاع سد لرفع قدرة إنتاج محطة كهربائه إلى 6000 ميجاوات، قد يتسبب فى ارتفاع تكلفة خطوط نقل الكهرباء إلى مصر والسودان. والبديل الأصغر للسد والذى اقترحته المجموعة الاستشارية النرويجية، قد يكون البديل الأفضل للربط الكهربائى مع مصر حيث يستطيع توليد كميات مقاربة من الكهرباء التى ينتجها السد الأكبر، وبتكلفة أقل. فهل من المنطق ألا تقبل إثيوبيا بناء سد أصغر يحقق أهدافها من توليد وتصدير الكهرباء، ويوفر مليارات الدولارات للشعب الإثيوبى، ويساعد على تحقيق تقارب مع دولتى المصب مصر والسودان لحل أزمة هذا السد؟. هذه الأوضاع غير المنطقية تجعلنا نتشكك حول الهدف الحقيقى من بناء الحكومة الإثيوبية للسدود التخزينية وتصدير الكهرباء، هل هو حقيقى هدف اقتصادى لزيادة إيراد الدولة من العملة الصعبة كما تدعى إثيوبيا، أم أنه هناك أهداف أخرى سياسية تتمثل فى التحكم فى المياه والطاقة إلى دول المصب، وبالتالى التحكم فى أقدار هذه الدول. وهناك تساؤلات عديدة ومهمة، قد تساهم إجاباتها فى تحديد كيفية التعامل المصرى مع قضية السدود الإثيوبية والتفاوض حولها مع الجانب الإثيوبى. وأول هذه التساؤلات: هل شبكة الكهرباء المصرية تستطيع استيعاب إجمالى إنتاج كهرباء سد النهضة. وبسؤال خبراء الطاقة الكهربية فى مصر، كانت إجابة معظمهم بنعم وبأن شبكة مصر الكهربية تستطيع استيعاب هذه الكميات، وكان رأى القليل منهم أن الشبكة قد تحتاج إلى بعض الإضافات البسيطة. ولكن أجمع معظم هؤلاء الخبراء على أن سعر بيع الكهرباء الإثيوبى ليس جاذباً لاستيرادها، لأنه أعلى بنسبة ليست قليلة عن تكلفة إنتاج الكهرباء فى مصر، وإذا أضفنا تكاليف نقل الكهرباء من السد الإثيوبى إلى الشبكة المصرية، فإن إجمالى التكلفة سيزيد حتى على أسعار الكهرباء فى العديد من دول العالم مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية والصين. وثانى هذه التساؤلات، هل تستطيع الشبكة الكهربية فى السودان أن تستوعب كهرباء سد النهضة. وإجابة الخبراء المصريين على ضوء البيانات المنشورة من الحكومة السودانية والمتوفرة على المواقع الإلكترونية، أن الشبكة السودانية تستطيع استيعاب كميات محدودة من كهرباء السد لا تتعدى ألف ميجاوات، وأن استيعاب أى كميات إضافية يتطلب التوسع فى الشبكة السودانية، ومثل هذه التوسعات تحتاج إلى سنوات طويلة وتكاليف ضخمة. والتساؤل الآخر، هل تستطيع شبكة الكهرباء الإثيوبية استيعاب كهرباء سد النهضة. والإجابة مماثلة لوضع شبكة السودان، أو أسوأ قليلاً. وقد يتساءل البعض: هل هناك دول أخرى يمكن تصدير كهرباء سد النهضة إليها بدلاً من مصر والسودان. والإجابة هى نعم، فهناك دول مثل جنوب السودان والصومال وكينيا ثم تنزانيا، ولكن ستكون الكميات المنقولة لها محدودة والتكاليف غير اقتصادية نتيجة لطول مسافات نقل الكهرباء إليها، بالإضافة إلى أنه هناك بدائل إثيوبية أخرى لتزويد هذه الدول بالكهرباء الإثيوبية من سدود قريبة من هذه الدول مثل سلسلة سدود جلجل على نهر أومو المشترك مع كينيا، وهناك سلسلة سدود جبا المقترحة على نهر البارو أكوبو لتصدير الكهرباء إلى جنوب السودان. وعلى ضوء هذه الحقائق يتضح مدى الأهمية الكبرى التى توليها إثيوبيا لمشاركة مصر فى استيراد كهرباء سد النهضة. وهذه الأهمية تعود أسبابها إلى عدد من الإيجابيات الأساسية للجانب الإثيوبى، منها أن مشاركة مصر فى استيراد الكهرباء يعنى موافقتها الضمنية على السد مما سيسهل كثيراً من حصول إثيوبيا على التمويل الدولى اللازم لاستكمال المشروع. ومنها أن مصر هى الدولة الوحيدة فى المنطقة التى لديها شبكة كهربية تستطيع استيعاب كميات ضخمة إضافية من الكهرباء سواء للاستخدام المحلى أو للتصدير إلى الدول العربية المجاورة. ومنها أيضاً أن مشاركة مصر فى استيراد كهرباء سد النهضة ستحقق منافع اقتصادية حقيقية من السد وإيراد مالى ثابت يمكّن إثيوبيا من تنفيذ وتمويل بقية مخططها للسدود على النيل الأزرق. وموافقة مصر على السد وعلى استيراد الكهرباء الإثيوبية يحقق لإثيوبيا التحكم النسبى فى إمدادات الكهرباء والمياه لمصر، وما لذلك من مكاسب سياسية. ومن الواضح أن مقاطعة مصر لكهرباء سد النهضة ستؤدى إلى فشل مشروع السد، بل أيضاً إلى فشل بقية سدود النيل الأزرق، ومصر لا يستطيع أحد لى ذراعها والذى يجهل ذلك، عليه قراءة واستيعاب التاريخ، وأرجو أن يكون ذلك سريعاً، وللحديث بقية.