التجديد القانونى للخطاب الدينى.. حظر تعذيب المتهم
عرفت النظم القانونية فى الماضى الأخذ بالتعذيب فى أثناء التحقيق الابتدائى. وقد مورس هذا الإجراء فى فرنسا إلى أن أُلغى نظام التحرى والتنقيب، وذلك بموجب الأمر الملكى الصادر فى 24 أغسطس سنة 1780م. وفى ظل هذه الثقافة السائدة فى العالم كله، كان من الطبيعى أن نجد بعض الآراء فى الفقه الجنائى الإسلامى التى تجيز ضرب المتهمين. ففى مؤلفه المعنون «الاعتصام»، وتحديداً فى الباب الثامن الذى جاء تحت عنوان «البدع والمصالح المرسلة والاستحسان»، يقول الإمام الشاطبى: اختلف العلماء فى الضرب بالتهم، وذهب «مالك» إلى جواز السجن فى التهم، وإن كان السجن نوعاً من العذاب، ونص أصحابه على جواز الضرب، وهو عند الشيوخ من قبيل تضمين الصناع، فإنه لو لم يثبت السجن والضرب بالتهم، لتعذر استخلاص الأموال من أيدى السراق والغصاب، إذ قد تتعذر إقامة البينة، فكانت المصلحة فى التعذيب وسيلة إلى التحصيل بالتعيين أو الإقرار. فإن قيل فى هذا فتح لباب تعذيب البرىء! قيل: ففى الإعراض عنه إبطال استرجاع الأموال، بل الإضراب عن التعذيب أشد ضرراً، إذ لا يعذب أحد بمجرد الدعوى، بل مع اقتران تهمة تحيك فى النفس وتؤثر فى القلب نوعاً من الظن، فالتعذيب فى الغالب لا يصادف البرىء، وإن أمكن مصادفته، فمغتفر كما اغتفر فى تضمين الصُناع. فإن قيل: لا فائدة فى الضرب، وهو لو أقر، لم يقبل إقراره فى تلك الحال! فالجواب: إن له فائدتين: إحداهما: أن يعين المتاع، فتشهد عليه البينة لربه، وهى فائدة ظاهرة. والثانية: أن غيره قد يزدجر، حتى لا يكثر الإقدام، فتقل أنواع هذا الفساد. وقد عد له «سحنون» فائدة ثالثة، وهى الإقرار حالة التعذيب، فإنه قد يؤخذ عنده بما أقر به فى تلك الحال. قالوا: وهو ضعيف؛ فقد قال الله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ» البقرة: 236. ولكن نزله «سحنون» على من أُكره بطريق غير مشروع؛ وكما إذا أكره على طلاق زوجته، أما إذا أكره بطريق صحيح، فإنه يؤخذ به؛ كالكافر يُسلم تحت ظلال السيوف، فإنه مأخوذ به. وقد تتفق له هذه الفائدة على مذهب غير سحنون، إذا أقر حالة التعذيب، ثم تمادى على الإقرار بعد أمنه، فيؤخذ به. قال الغزالى، بعد ما حكى عن الشافعى أنه لا يقول بذلك: «وعلى الجملة: فالمسألة فى محل الاجتهاد». قال: «ولسنا نحكم ببطلان مذهب مالك على القطع، فإذا وقع النظر فى تعارض المصالح؛ كان ذلك قريباً من النظر فى تعارض الأقيسة المؤثرة».
وإذا كان الإمام ابن حزم قد قال إنه «لا يحل الامتحان فى شىء من الأشياء بضرب ولا بسجن ولا بتهديد لأنه لم يوجب ذلك قرآن ولا سنة ثابتة ولا إجماع»، نجده يذهب إلى أنه إذا عذب المتهم بالسرقة، فأقر بالمال المسروق، وظهر عنده، قطعت يده، لا بناء على الإقرار الذى أكره عليه، ولكن بوجود المال المسروق معه الذى توصل إليه الإقرار. ونرى مع بعض الفقه أن هذا القول لا يتفق مع الشريعة الإسلامية، لأنه يصدم بقاعدة فقهية مقررة، وهى أنه لا يبنى صحيح على باطل، لأن سد الذرائع يقتضى إبطال نتيجة الإكراه حتى لا يغرى ضعاف النفوس باستخدام التعذيب.
والواقع أن الآراء الفقهية القديمة بجواز التعذيب لم تعد مقبولة فى العصر الحالى. ولا يسوغ أن يؤيدها أو يسوغها إنسان عاقل ينتمى إلى القرن الحادى والعشرين، لاسيما أن هذه الآراء لا يوجد لها سند من القرآن والسنة. بل إن نصوص القرآن والسنة النبوية قاطعة بعكس ذلك. ومن ناحية أخرى، فإن حظر تعذيب المتهمين غدت قاعدة مستقرة فى الدساتير المعاصرة كافة، وبحيث يمكن اعتبار هذا الحظر أحد «مبادئ القانون العامة التى أقرتها الأمم المتمدينة»، وذلك وفق تعبير النظام الأساسى لمحكمة العدل الدولية. وهكذا، يحظر الدستور المصرى الحالى لعام 2014م التعذيب بجميع صوره وأشكاله، مقرراً اعتباره «جريمة لا تسقط بالتقادم» (المادة الثانية والخمسون من الدستور). وفيما يتعلق بالحبس الاحتياطى على وجه الخصوص، وطبقاً للمادة الخامسة والخمسين من الدستور، «كل من يقبض عليه، أو يحبس، أو تقيد حريته، تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنياً أو معنوياً، ولا يكون حجزه، أو حبسه إلا فى أماكن مخصصة لذلك لائقة إنسانياً وصحياً، وتلتزم الدولة بتوفير وسائل الإتاحة للأشخاص ذوى الإعاقة. ومخالفة شىء مما ذكر جريمة يعاقب مرتكبها وفقاً للقانون. وللمتهم الصمت، وكل قول يثبت أنه صدر من محتجز تحت وطأة شىء مما تقدم، أو التهديد بشىء منه، يهدر ولا يعول عليه». والله من وراء القصد.