الأزمة الأوكرانية.. ومواقع اللاعبين الجدد (2)
تنتقل الأزمة الأوكرانية سريعاً إلى المرحلة المركّبة التى يصعب تفكيك مكوناتها، حيث يصعب تصور أن تُترك لتتصاعد بهذا الشكل المتنامى الأقرب لنمط كرة الثلج المندفعة إلى المنحدر بقوة كاسحة.
على الأقل هذا ما يبدو فى عشرين يوماً من العمل العسكرى الروسى، الذى حملها على نحو مفاجئ إلى خارج الأطر التى يمكن توقع إمكانية السيطرة عليها.
فى الاستعراض السابق لمواقع اللاعبين، تناولنا موقع القوات العسكرية الروسية باعتبارها أهم الفاعلين الذين سيتحكمون فى مسارها، وعلى جانب مقابل رصدنا الموقع الذى بدأ منه المعسكر الغربى إدارته لهذا الصراع، وإلى أين سيمضى بعد هذه النقلة النوعية فى طبيعته.
اليوم، وبعد أسابيع مضت، يبدو هناك لاعبون جدد ظهروا سريعاً على خط الأزمة، استدعتهم الأحداث ربما وهذا متوقع، أو تحمل الاستعانة بهم ودفعهم إلى خطوط المواجهة العديد مما فرضته تحديات ساحات المواجهة.
هؤلاء هم «المقاتلون الأجانب» حيث بدا لافتاً حديث الرئيس الروسى، وهو فى اجتماع مذاع مع وزير دفاعه، يعطيه موافقته على استقدام من سمّاهم الأخير بـ«المتطوعين»، محدداً عددهم بـ«16 ألف» مقاتل من منطقة الشرق الأوسط.
الذرائع الروسية لتلك الخطوة الاستثنائية ذكرت أنها جاءت رداً على إعلان أوكرانى سبقه فى دعوة المتطوعين للانضمام إلى «الفيلق الدولى»، وآخرون بعد أيام ذهبوا إلى أن تلك الخطوة أتت بغرض الاستعداد لحرب المدن، فى إشارة إلى أن الجيش الروسى لا يريد أن يتحمل كلفة المواجهة المباشرة مع المدنيين الأوكرانيين.
لكن التفسيرات الروسية ربما لم تقف عند تحديد الرئيس بوتين لجبهة «الدونباس»، التى ذكرها بالاسم كساحة مختارة سيجرى الدفع بهم إليها، بل وقرن فى نفس الحديث وعده بأن ذات الجبهة سيجرى تزويدها بالسلاح الغربى الذى استولى عليه الجيش الروسى كغنائم أثناء العمليات على الأراضى الأوكرانية.
لا يُتصور بعد هاتين الإشارتين الواضحتين، سوى أن هذه الجبهة المفتوحة منذ العام 2014 تعانى من تعثر بشكل أو بآخر، خاصة والحصاد العملياتى يؤكد تلك الفرضية بعد عجز الجيش الروسى عن تحقيق تغيير فارق فى خطوط ومساحات الاستحواذ لصالح الانفصاليين فى جمهوريتى «لوهانسك» و«دونتستك».
فقد بدأت العمليات العسكرية فى 24 فبراير، والانفصاليون الموالون لروسيا يسيطرون على ما يقارب 40% من إجمالى مساحة الجمهوريتين الإدارية، واليوم بعد هذه الحملة الضخمة والجهد العسكرى الكاسح للجيش الروسى، لم تتبدل نسب سيطرة الانفصاليين والاستحواذ، وفق أقصى تقدير، سوى الوصول لنسبة 65%، عبر الاستيلاء على بعض القرى والبلدات المحدودة التى لم تمكّن الجيش الروسى من الخروج وإعلان نصر جزئى فى إحدى الجبهات، فضلاً عن أنها تتمتع بخصوصية كونها الجبهة التى أشعلت الخلاف والعداء مع الدولة الأوكرانية.
لهذا يتصور رغبة الرئيس بوتين فى إغراقها بهذا النوع غير التقليدى من المقاتلين القادرين، وفق تقدير الجيش الروسى، على الخوض فى مستنقعاتها وغاباتها، وصناعة أكبر قدر من الترويع والإرهاب لأهالى القرى والمدن الصغيرة، العصيّة حتى الآن على الاستسلام.
كما يمكن تصور أن تمرُّس المكون الأوكرانى فى هذه المنطقة، التى تخوض حرباً ضد المكون الموالى لروسيا منذ 2014 شكّل حجر عثرة أمام تحقيق تغير فارق رغم الدعم العسكرى الروسى الصريح فى هذه الجولة.
ربما هذه مسببات منطقية، تدفع الرئيس الروسى لإلقاء هؤلاء المرتزقة البائسين إلى حوض «الدونباس»، تلك المحرقة المرشحة لأن تطالها فظائع قادمة، المكون الأجنبى قد يمثل فيها عنصراً مثالياً من وجهة التقدير الروسى.
لكن الحقيقة أن المشهد على الجانب الآخر لا يقل خطورة، ليس بالحديث المتنامى عن «الفيلق الدولى» الأوكرانى وحده، بل أيضاً على نفس هذا المسرح العملياتى الذى تشكّل خلال سنوات الصراع السابقة، ويطل اليوم بقوة، ويمثل إحدى القوى الضاربة التى يراهن عليها الرئيس زلينسكى.
المكون الأول «كتيبة آزوف» التى تشكلت فى مايو 2014، فهى ابنة شرعية يمينية متطرفة وُلدت من رحم الصراع فى «الدونباس»، اكتسبت شهرتها بعدما استعادت السيطرة على مدينة «ماريوبول» ومينائها الاستراتيجى من الانفصاليين بعد أشهر معدودة من تأسيسها.
مرجعيات «كتيبة آزوف» الأيديولوجية لها ارتباط ببعض العقائد النازية التى تؤمن بتفوق البيض، لذلك يستخدم الرئيس الروسى وصم نظام كييف بالنازيين الجدد، وعد سبباً رئيسياً للعملية الروسية برمتها اجتثاث هذا التيار من حكم أوكرانيا، بعدما حظى هذا المكون العسكرى غير التقليدى بتمويل سخى وتسليح متطور، قام به رجال أعمال مقربون من دوائر الحكم الأوكرانى، ومن ثم دمج عناصرها فى الحرس الوطنى ليصيروا جنوداً رسميين للدولة.
ولا يقتصر الأمر على «كتيبة آزوف»، فهناك أيضاً «كتيبة آيدار» التابعة للقوات البرية الأوكرانية، أنشئت فى التاريخ نفسه تقريباً وتؤمن بذات العقيدة اليمينية القومية.
رغم محدودية عدد أعضائها (1000 مقاتل) بالمقارنة بآزوف، إلا أن اسمها برز بقوة مؤخراً بعد ربطها بالقصف الروسى على «قاعدة يافوريف» فى أقصى الغرب الأوكرانى، فى عملية هجوم صاروخى عابر (30 صاروخاً) شكّل صدمة مباغتة لكييف، بالنظر إلى موقع القاعدة التى تبعد عن الحدود البولندية بنحو 25 كم، ويسميها الأوكرانيون بـ«المركز الدولى لحفظ السلم والأمن الدولى».
أيضاً تُستخدم تلك القاعدة العسكرية فى التدريب الذى اشترك فى البعض منه مع الجيش الأوكرانى، قوات من «حلف الناتو» قبيل أشهر من بدء العملية الروسية الأخيرة، مما سمح لموسكو أن تصفها بتبعيتها للحلف على أراضى أوكرانيا. الثابت فيما يخص «كتيبة آيدار» أن عدداً ليس بالقليل من عناصرها كان موجوداً هناك منذ بدء القتال، حيث أوكل لهؤلاء مهمة استقبال عناصر المتطوعين فى الفيلق الدولى، فضلاً عن استخدام القاعدة فى تخزين الأسلحة القادمة من الدول الغربية.
المؤكد أيضاً أن الاستهداف الروسى لتلك المهام بمثابة حزمة رسائل مجمّعة لكافة الأطراف المنخرطة فى هذا الأمر، فضلاً عن منسوب الخطر الذى بدأ يلوح بقوة، خاصة مع استخدام الطرفين لهذا النوع غير التقليدى من المقاتلين القادرين على صناعة أكبر قدر من الفوضى والتعقيد فى أزمة لا تخلو من أى منهما بأى حال!