الحرب الأوكرانية ومستقبل العملات المشفرة

يشهد العالم حالياً أخطر أزماته على الإطلاق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ونعنى بذلك العدوان الروسى على أوكرانيا، والتى يخشى معظم المحللين السياسيين أن ينزلق الوضع فيها إلى حرب عالمية ثالثة. وقد زاد الأمر حدة بالخطاب القصير الذى ألقاه الرئيس الروسى يوم الأحد الموافق السابع والعشرين من فبراير 2022م، والذى أصدر خلاله الأوامر إلى قياداته العسكرية برفع حالة التأهب النووى فى صفوف قواته وقواعد إطلاق أسلحته النووية وصواريخه الباليستية العابرة للقارات إلى حدودها القصوى، حتى تكون على استعداد تام، للرد بها فوراً على تهديدات الناتو المتزايدة لبلاده، على حد قوله.

وإذا كان المداد قد سال بوفرة حول هذه الحرب وتداعياتها على النظام العالمى الجديد، بحيث انتهى البعض إلى أن ما بعدها لن يكون بأى حال من الأحوال كما كان قبلها، وإذا كانت التحليلات السياسية والصحفية قد أسهبت فى الحديث عن الآثار والتبعات الاقتصادية والتجارية لهذه الحرب، فإن ثمة جانباً بقى مهملاً فى هذه الأزمة، وهو تداعياتها على النظام المالى العالمى. بيان ذلك أنه مع تصاعد حدة الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، تتزايد الدعوات فى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين إلى إخراج روسيا من نظام سويفت العالمى للمدفوعات، وهو نظام عالمى يسمح بانتقال سلس وسريع للأموال عبر الحدود. وقد أنشئ هذه النظام بواسطة بنوك أمريكية وأوروبية، ويشرف عليه البنك الوطنى البلجيكى بالشراكة مع البنوك المركزية الكبرى فى جميع دول العالم، لا سيما بنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى وبنك إنجلترا. ويهدف نظام سويفت إلى جعل التجارة الدولية الآمنة ممكنة للدول الأعضاء، والمفترض أن يتم إبعاد هذا النظام عن الانحياز إلى أى طرف فى النزاعات. ولكن فى عام 2012م تم حظر إيران من هذا النظام، كجزء من العقوبات المفروضة على برنامجها النووى. كذلك تم التهديد بالإجراء ذاته فى مواجهة روسيا الاتحادية، رداً على قيامها بضم شبه جزيرة القرم عام 2014م، ولكن لم يتم تنفيذ هذا التهديد حينها. ورداً على التهديد بهذا الإجراء فى الأزمة الحالية، قال الرئيس الروسى إن ذلك سيكون بمثابة إعلان حرب.

وفى اعتقادنا، وبصرف النظر عن القواعد الحاكمة لنظام سويفت، وما إذا كان جائزاً استخدامه كجزء من العقوبات المفروضة على دولة ما، نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تقوم بهذا الإجراء فى مواجهة روسيا الاتحادية. والسبب الذى يدعونا إلى ذلك هو حرص الولايات المتحدة الأمريكية على إبقاء هيمنة الدولار على النظام المالى والاقتصادى العالمى، وحتى لا تندفع روسيا وغيرها من الدول الراغبة فى تغيير المعادلات فى النظام العالمى الجديد إلى ابتكار وسائل بديلة للدولار والنظام المالى السائد حالياً بوجه عام. وفى هذا الصدد، نعتقد أنه ليس من قبيل المصادفة البحتة أن تطرح جريدة «وول ستريت جورنال» الأمريكية مؤخراً سؤالاً حول مدى إمكانية أن تتحول العملة الرقمية المشفّرة «بيتكوين» إلى عملة وطنية رسمية فى أىٍّ من دول العالم. وربما يكون ذلك هو أحد البدائل التى يمكن أن تلجأ إليها روسيا فى مواجهة أى إجراء يتخذ من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها بحرمانها من نظام سويفت. يؤيد ذلك أن التهديد بحرمان روسيا من نظام سويفت سنة 2014م دفع روسيا إلى تطوير نظام نقل خاص بها عبر الحدود، وإن بقى هذا النظام غير مستخدم سوى بواسطة عدد قليل من الدول الأجنبية. كذلك، وللتحضير لمثل هذه العقوبة، أنشأت الحكومة الروسية نظام بطاقات الدفع الوطنى المعروف باسم «مير»، وذلك للتعامل مع المدفوعات عبر البطاقات. وقد توجّه البنوك الروسية المدفوعات عبر دول لم تفرض عقوبات عليها، مثل الصين، التى يوجد لديها نظام مدفوعات خاص بها.

إن موقف الدول من العملات المشفّرة سوف يتحدّد فى ضوء الظروف الخاصة بكل دولة. ولا شك أن الدول الخاضعة لعقوبة الحرمان من نظام سويفت سوف تجد نفسها مضطرة للاعتماد على العملات المشفّرة. فعلى سبيل المثال، ومنذ أربع سنوات تقريباً، وتحديداً فى الحادى والعشرين من فبراير 2018م، ولتفادى العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية، أطلقت دولة فنزويلا عملة «بترو» الرقمية، مؤكدة أن هذه العملة ستكون مدعومة من احتياطيات النفط، علماً بأن فنزويلا الواقعة فى أمريكا اللاتينية تحتضن أكبر احتياطى مؤكد للنفط فى العالم. ورداً على هذا الإجراء، حذّرت وزارة الخزانة الأمريكية من أن فنزويلا قد تنتهك بذلك العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها منذ عام 2017م. وانطلاقاً من هذه الملاحظة، نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها لن يقدموا على حرمان روسيا الاتحادية من نظام سويفت، رغم التهديدات المتكرّرة فى هذا الشأن. حفظ الله البشرية من كل سوء.