محمود الكردوسي.. رحيل مقاتل لا يحب المحايدين

كتب: سيد المليجي

محمود الكردوسي.. رحيل مقاتل لا يحب المحايدين

محمود الكردوسي.. رحيل مقاتل لا يحب المحايدين

ولد الكاتب الصحفي محمود الكردوسي في قرية نائية، لكن حياته كانت مليئة بالأحداث الصاخبة، تفتحت عيونه على أم ظلت ترتدي ثوب الحزن طوال حياتها.. بينما كان هو أكثر المحبين للحياة، كان طيبا على طريقة والده الفلاح البسيط، وقاسيا وعنيدا بحكم أنه قضى أول 18 عاما من عمره في بيئة زراعية محصورة بين جبلين، كان عنيفا في حبه وفي غضبه، منحازا لقناعاته ولا يقبل الحياد، ويعتبر الموت لحظة فاصلة تمنح الشخص شهادة الخلود أو النسيان، لذا لم يخشاه أو يهابه، بل كان كتابه الأخير أقرب لحالة غزل مع الموت، وكأنه استشعر قرب اللحظة.. واطمأن للنتيجة.

ولد محمود الكردوسي في قرية المدمر التابعة لمدينة طما بمحافظ سوهاج، بيئة واضحة تجبر من يعيشون فيها على السير في خط مستقيم يفصل بين جبلي الشرق والغرب، في هذا المكان يعيش الناس على لون واحد.. هو الأسود، لون الأرض الزراعية، ولون ملابس غالبية النساء، هو لون الحزن.. والظلام الذي يقسم ساعات اليوم بحدة إلى نهار شاق في حركته، وليل يقتل كل مظاهر الحياة.

حكاية محمود الكردوسي مع اللون الأسود

عاش محمود الكردوسي، الـ18 عاما الأولى من عمره في هذا المكان، كانت والدته امرأة ريفية بسيطة لم تخلع اللون الأسود منذ ولادته إلى أن فارقت الحياة، وحين اشتري لها ثوبا من القطيفة لونه كحلي، رفضت أنت ترتديه خوفا من أن يقلل من وقارها، وكان والده فلاحا بسيطا التحق بركب التجارة بحثا عن سعة الرزق، وعاش على أمل أن يرى نجله ضابطا أو مذيعا شهيرا، لكنه فارق الحياة والابن صحفيا.

تعلم محمود الكردوسي من والدته أن يكون طيبا في عطائه، وتعلم من والده أن يكون حازما إلى حد القسوة في تعاملاته، وتعلم من أهل قريته أن يكون عنيفا في حبه وغضبه وحزنه، حادا في الدفاع عن قناعاته، ولا يقبل الحياد، ففي عامه العاشر شاهد نساء قريته يصرخن في الشوارع حزنا على رحيل جمال عبدالناصر، شاهد نحيبهن وهن يهلن التراب ويضعن الطين على رؤوسهن، حزنا على رحيل رجل لا يملك لهن نفعا ولا ضر، وقتها أدرك أن الموت مناسبة للاحتفال بالحزن.

رحلة محمود الكردوسي مع الصحافة

جاء محمود الكردوسي إلى القاهرة، وعمره 18 عاما، ليلتحق بكلية الإعلام جامعة القاهرة، رغم أنه كان يرغب في دراسة الهندسة، وحصل على شهادة البكالوريوس قسم صحافة عام 1981، ليتفرغ بعدها لصناعة حكايته الخاصة في بلاط صاحبة الجلالة، وتنقل بين العديد من الإصدارات والمؤسسات الصحفية الرسمية والخاصة.. ليجمع فصول هذه الحكاية، ما بين مجلات 7 أيام ونص الدنيا والأهرام العربي في مؤسسة الأهرام، وجريدة صوت الأمة والمصري اليوم، وأخيرا صحيفة «الوطن» المحطة التي زادت من توهجه، وكانت نقطة عبور لشخصيته في الكتابة، على صفحاتها اشتبك في معارك الدولة ضد المتآمرين على مؤسساتها، وكان مقاتلا يحول الكلمات إلى دانات مدافع، وطالما اكتوى بكلماته الإخوان ومن يحترمونهم، كان صاحب أسلوب مميز، يكتب وكأنه يحكي لأشخاص يعرفهم، يكتب لأجل ما يحبه ومن يحبه، ولا يشغل باله بدوي كلماته.

كان محمود الكردوسي يحب الكتابة، يطوعها على صفحات الجرائد لخدمة ما يؤمن به من قضايا، ويغويها بأن تحمل ما يرغب في التأريخ له بين ضفتي كتاب، وصدر له «مرة واحد صعيدي» عام 1996، وكتاب سيرة بعنوان «ورق دشت»، ورواية «ذائقة الموت»، والإصدار الأخير كان أقرب إلى حالة غزل في وقار وجلال الموت، وكأنه يراه مناسبة تستحق الاحتفال، احتفال بالحزن على فراق عزيز، ولحظة تمني ألا تكون قاسية على ابنتيه، لذا كتب لهما في هذه الرواية عدودة من الفلكلور الصعيدي تقول: «يا بنت أبوكي وردتين على الخد.. أوعاكي تقولي زي أبويا حد، يا بنت أبوكي وردتين ع الرأس.. أوعاكي تقولي زي أبويا ناس»، قبل أن يرحل عن عالمنا الجمعة 25 فبراير 2022.


مواضيع متعلقة