الملازم طيار فتحي باشاغا.. رجل الأقدار السياسية في ليبيا

كتب: سيد المليجي

الملازم طيار فتحي باشاغا.. رجل الأقدار السياسية في ليبيا

الملازم طيار فتحي باشاغا.. رجل الأقدار السياسية في ليبيا

فتحي باشاغا.. اسم يمتلك صاحبه رصيدا لا ينفد من الألقاب والحكايات، التي تلخص تاريخ الدولة الليبية منذ عام 1977.

ارتبط أول ظهور له في المشهد السياسي بلحظة إعلان العقيد معمر القذافي قيام الجماهيرية الليبية، ورشحه النظام الجديد للدراسة في الكلية الجوية، وأصبح «مقاتل طيار»، لكن نتائج حروب الدولة الوليدة أنهت خدمته العسكرية بعد سنوات معدودة، ومنحه القدر فرصة جديدة التصق خلالها اسمه بلقب أول رجل أعمال في نظام القذافي.

وفي اللحظة التي اهتزت فيها أركان هذا النظام.. عاد لممارسة مهامه العسكرية، ولكن من خلال اللجنة العسكرية لمدينة مصراته، وهذا المكان أتاح له فرصة أن يكون الصندوق الأسود للمرحلة الانتقالية، فكان أول من حذر من مخاطر قتل القذافي، ولأن القدر لا يزال يعول على فتحي باشاغا، منحه فرصة جديدة قبل أيام، حين أعلن البرلمان فوزه بالإجماع برئاسة الحكومة الموحدة، ومهمتها إتمام المصالحة، وتوحيد مؤسسات الدولة، وتحريرها من قبضة المليشيات المسلحة.

أول حلم للنائب البرلماني فتحي باشاغا

كان فتحي باشاغا أكثر الأسماء الليبية التي شاركت في مباحثات لم الشمل التي استضافتها مصر، وخلال زياراته للقاهرة كان يتردد على مكتب في الطابق الثالث بـ«مول اركاديا»، ليلتقي بعدد من الصحفيين المصريين والليبيين، والغريب أنه لم يكن وقتها يرغب في نشر تصريحات على لسانه أو حتى صوره.

قادتني الصدفة في صيف 2015 لدخول المكان المفضل لـ فتحي باشاغا في «اركاديا مول»، وتعجبت من عدم وجود صور لأي مسؤول رسمي، لكن من رافقني في جولة سريعة بالمكان أبلغني أن كل من يزورون هذا المقر من الشخصيات الليبية لا يفضلون التصوير؛ لتجنب تسرب الصور للإعلام وما قد يترتب على الأمر من مخاطر تطول عائلاتهم في ليبيا بفعل المليشيات المسلحة، وحين سألته عن النائب البرلماني فتحي باشاغا قال إنه أول شخص تمكن من تصويره في هذا المكان، وظل يروي الحكايات عن هذا الرجل الذي يجمع بين شجاعة الفرسان ودهاء السياسيين.

أول ظهور سياسي لفارس مصراته

دخل ساحة الاحتفال في طرابلس، وهو يمتطي جوادا صغير الجسم والسن أو كما يقول الليبيون «فلو»، ظلت عيون الحاضرين تحاصره إلى أن توسط الميدان، ليتفاجأوا بأن الشاب الذي يقترب عمره من الـ15 عاما.. شب واقفا على ظهر الحصان، فايقنوا أنهم أمام فارس لا يشق له غبار، مرت دقائق قليلة تلاعب فيها المراهق المصراتي بعقول وقلوب من جاءوا للاحتفال بإعلان 2 مارس 1977، بينما جاء أبناء مدينته إلى هذه الساحة لإحياء ذكرى معركة رأس الطوبة التي تخلد مقاومة مدينتهم للاحتلال الإيطالي.

فتحي علي عبدالسلام باشاغا.. كان هذا هو الاسم الذي تردد على ألسنة الليبيين عقب هذا الاحتفال، وكان أول ظهور سياسي للفارس المراهق المولود في 20 أغسطس عام 1962بمدينة مصراته، لتتحول احتفالات 2 مارس 1977 لتاريخ ميلاد جديد له، يوافق تاريخ ميلاد الجمهورية الليبية بإعلان دستوري تضمن 4 نقاط أساسية وهي: تحديد اسم الدولة، وشريعتها، وآلية نظامها، ومسؤولية الدفاع عن الوطن.

عاد الفارس المراهق من الحفل واسمه محفورا في ذاكرة أبناء مدينته، ولم يخطر في بال أحدهم أن والده اشترى له الحصان قبل أيام قليلة، ولم يكن قد اعتاد امتطاه لأنه لم يتلقى سوي دروسا معدودة في ركوب الخيل، لكنه حين وجد شعراء الحفل يتغنون بمهارات فرسان طرابلس.. شعر بأنهم يستفزون أبناء مدينته، وحين تساءل أبناء عمومته عما يمكنه تحدي أحد فرسان طرابلس، قرر أن يخوض التحدي، وجاءت النتيجة بما يشتهي أبناء مدينته، وأصبح فارسهم المفضل رغم أنه لم يستعرض مواهبه كفارس في المناسبات العامة التالية، وقرر والده بعد ذلك بيع الحصان الذي ظهر به في الحفل، باعتباره لن يملك الوقت للتدريب لقرب التحاقه بالجامعة.

لجان القذافي ترشح فتحي باشاغا لدراسة الطيران

لم يكن فتحي باشاغا مخيرا في تعلم الفروسية، لكنه برع فيها حين شعر أنها وسيلة للدفاع عن تراث مدينته، ومكانة أبنائها بين القبائل، ولم يكن مخيرا في الانضمام لفريق الكشافة، لكنها كانت وسيلة لإثبات القوة والمهارة في تحمل المسؤولية مقارنة بزملائه، والغريب أنه لم يكن مخيرا أيضا في دخول كلية الطيران، فمن رشحه لدخولها هي لجان التوجيه التي شكلها نظام الحكم الجديد بقيادة العقيد معمر القذافي.

التحق فتحي باشاغا بالكلية الجوية في مصراته عام 1980 بعد أن اجتاز الكشف الطبي، وكانت الدراسة في السنة الأولى عامة، بعدها كان عليه أن يختار تخصص من ثلاثة، مقاتل طيار أو طيار نقل عسكري أو طيار نقل عمومي، فاختار الأولى، وتخرج عام 1984 برتبة ملازم ثان، لكنه لم يصبح مقاتل طيار؛ بل رشحته إدارة الكلية ضمن 5 خريجين ليصبحوا مدربي طيران.

قضى فتحي باشاغا عاما من التدريب على أيدي عسكريين من روسيا، ليبدأ في عام 1985 رحلته في تدريب الطيارين، وكان مطلوب منه تدريب طيار أو اثنين على الأكثر في كل عام، لكنه كان يملك طاقة وحماس يتجاوزان هذا الرقم، وعرف عنه خلال هذه الفترة الصرامة في تعليم طلابه، والميل لأسلوب قاسٍ في تحميل المتدرب المسؤولية الكاملة عن التحكم في الطائرة دون تدخل منه سوى في حالات الضرورة القصوى، لأنه كان يؤمن بمنح المتدرب الثقة الكاملة في إدارة الرحلة، لكن هذه الطريقة أسفرت عن حادث كاد يتحول إلى كارثة، حين قرر المشاركة في رحلة تدريبية ليلية، وكان الطالب المعني بالرحلة يخضع للتدريب على يد مدرب آخر، وسارت الأمور وفقا لما يشتهي المدرب المتحمس، إلى أن جاءت لحظة الهبوط، وقتها ارتكب الطالب خطأ كارثيا، وتمكن المدرب من السيطرة على الموقف، واقتصرت الخسائر وقتها على تحطم مقدمة الطائرة، لكن الواقعة كانت سببا في إنهاء مسيرة المدرب.

أسباب استقالة فتحي باشاغا من سلاح الطيران

في عام 1986، صدر قرارا بعودة فتحي باشاغا مرة أخرى للسرب الذي تخرج فيه، وانتهت علاقته بالتدريب ليصبح طيارا مقاتلا، وهو اللقب الذي لازمه لمدة عامين، شهد خلالهما العديد من الأحداث والمعارك، لكن يبقي أكثرها تأثيرا على مستقبله مع الجيش الليبي معركة وادي الدوم؛ أشهر المعارك في الحرب الليبية التشادية، التي وقعت في 22 مارس 1987 وقٌتل فيها 1269 جنديا ليبيا، وتمَّ أسر 438 كان من بينهم قائد الجيش خليفة حفتر، وبدأ الأمر وقتها وكأن سلاح الطيران هو المسؤول عن الهزيمة، فتجمدت رواتب مقاتليه، وتراجعت عمليات التطوير والتحديث والتدريب، ووصل الأمر إلى حد إصدار قرار بفتح الباب لمن يرغب في الاستقالة.

وتزوج فتحي باشاغا عام 1989، ورزق بثلاث أبناء «سارة وعلي ومحمد»، وفي عام 1993 كان راتبه لا يتجاوز 3500 دينار ليبي، فقرر الاستقالة؛ ليخوض تحديا جديدا في مجال التجارة، وكانت وقتها مدينة مصراته تشهد توسعات سكنية ترشحها لتكون أكبر مدن الغرب الليبي، لذا أسس شركة استيراد تخصصت في مواد البناء، وسرعان ما أصبح أول رجل أعمال في ظل نظام العقيد معمر القذافي، وتحول بمرور الوقت من مجرد تاجر أو مستورد لرجل صناعة، وتخصص في إنتاج إطارات السيارات، وأصبح يدير شركة نشاطها يمتد ما بين ليبيا والإمارات، وفي 2010 كانت لحظة ميلاد لوجه جديد لرجل الأعمال الذي امتلك في هذا العام أفخم سيارة ملاكي من شركة مرسيدس، وهي ذات السيارة التي ساهمت فيما بعد في إنقاذ حياته من أول محاولة اغتيال تعرض لها.

فتحي باشاغا يعود لمهامه العسكرية بسبب القذافي

كان فتحي باشاغا على موعد مع ميلاد جديد في فبراير 2011، وبالتحديد حين تشكلت لجنة قضائية في مدينة مصراته لمواجهة نظام القذافي، وقتها استدعاه أعضاء اللجنة باعتباره مقاتلا سابقا وليس رجل أعمال، ولم ينكر وقتها أنه يعرف العقيد معمر القذافي جيدا، وأبلغهم أنه يتمني أن يختار الزعيم الليبي التضحية والخروج من السلطة، وأن لم يفعل فتكون مهمة اللجنة هي الدفاع عن المدنية، وعدم الاشتباك مع ما يحدث خارجها، وتمكنت اللجنة بفضل مساعداته من التواصل مع الضباط العاملين والمستقيلين لتكوين لجنة أو مجلس عسكري لمدينة مصراته، وكان هو أحد أعضاء هذا المجلس، وكانت مسؤوليته وقتها رئيس قسم المعلومات، وهو ما مكنه من متابعة كافة التفاصيل لما يجري على الأرضي الليبية، لذا كان أول من علم بالقبض على القذافي، وطالب وقتها بسرعة تسليمه، وحذر من المساس به أو بث صوره، وحين أبلغ بمقتله، حزن بشدة، وقال إن ليبيا تدفع ثمنا باهظا لهذا التصرف المخجل.

داخل غرفة عمليات مصراته، استقبل فتحي باشاغا مكالمة من نجله «محمد» يخبره باستشهاد عمه «هادي باشاغا» في مواجهات مع قوات النظام، فغادر غرفة العمليات ليشارك في تشييع جنازته، ثم عاد ليلا ليكمل مهمته، وبعدها استقبل 5 مكالمات كل منها تحمل خبر وفاة واحد من أبناء عمومته خلال الاشتباكات، ولم يتمكن من المشاركة في تشييع الجثامين، لكنه كان مهموما وقتها بمحاولات إخماد فتنة الدم، ومطالبة كافة المقاتلين بالاكتفاء بالدفاع عن المدينة، وتفادي الدخول في أي اشتباكات، لكن المقاتل السابق أدرك أن العقل الجمعي الذي أصبح يسير الأحداث على الأرض لن يحكمه صوت العقل، لذا اختار مغادرة غرفة العمليات، لينضم عام 2012 إلى مجلس شورى مصراته، واللجنة الاستشارية في هيئة المصالحة الوطنية.

ولم تتوقف محاولاته لتقليل حدة التوتر بين القبائل الليبية، وهو ما دفع الكثيرين لمطالبته بالترشح للانتخابات البرلمانية عام 2014، كواحد من 8 نواب يمثلون الغرب الليبي، رغم أنه كان يقول عن نفسه «أنا رجلا تنفيذيا ولست رجل تشريع»، وجاءت الخلافات التي شهدها البرلمان لتعفيه من مهمة التشريع، ويعود مرة أخرى للمهام التنفيذية كأحد الموقعين على اتفاق الصخيرات في المغرب ديسمبر 2015، ليرشحه لاحقًا رئيس المجلس الرئاسي السابق فايز السراج، لرئاسة مجلس الأمن القومي باعتباره أحد الأجهزة الأمنية العاملة على توحيد المؤسسة الأمنية في البلاد، لكنه اعتذر.

فتحي باشاغا يعود لعالم رجال الاعمال

 فضل فتحي باشاغا العودة لعالم رجال الأعمال، وقال إن الأجواء السياسية التي كانت سائدة وقتها لا توحي بأن أصحاب المناصب مهمومين بالدولة الليبية أكثر من اهتمامهم بالبقاء في مناصبهم، وأثبتت السنوات لمن هاجموا مواقفه صدق نواياه وحدثه، لذا ألح عليه رفاق الدرب القديم العودة للمشهد، وتحقق لهم ما أرادوا بتعيينه وزيرا للداخلية في أكتوبر 2018، بحكومة الوفاق بتكليف من المجلس الرئاسي، واستقبل في أول أيامه بالوزارة مشايخ القبائل والأعيان، ووعد بحماية مصالح المواطنين، ومكافحة تجاوزات المليشيات المسلحة خاصة أنه كان يعارض إنشاءها من البداية، ووصف بعضها بأنها كيانات متطرفة تهدد السلم والأمن الليبيين.

عام المصالحة مع قبيلة القذافي

كان عام 2021، هو الأبرز في مسيرة فتحي باشاغا، فهو العام الذي أثبت فيه لليبيين صدق رغبته في إتمام المصالحة، ففي هذا العام استقبل وهو وزير داخلية أعيان قبيلة القذاذفة، ومكنهم من استلام رفات الزعيم الليبي السابق ليعاد دفنه في مسقط رأسه، وأفرج عن أبنائه وعدد من رموز نظامه، ووجه الدعوة لكل الليبيين الموجودين في الخارج للعودة إلى وطنهم، وتعهد بعدم التعرض، إلا لمن يشكلون خطرا على المواطن الليبي.

ارتفعت أسهم المقاتل السابق على المستوي الشعبي، ومعها ارتفعت حدة المواجهات بينه وبين المليشيات المسلحة التي سعت للإطاحة به؛ بل وتعرض لمحاولة اغتيال في العام ذاته فور إعلانه على موقع «تويتر» عن رغبته في الترشح لرئاسة حكومة ليبية موحدة، وقال إن برنامجها يستهدف إتمام مصالحة شعبية حقيقية، وتطبيق إصلاح اقتصادي ومؤسسي بكوادر وطنية، لضمان بناء دولة ليبية حديثة تلبي طموح أبنائها.

فتحي باشاغا يفوز برئاسة الحكومة الليبية

فتحي باشاغا ترشح لرئاسة حكومة الوحدة الوطنية في فبراير 2021، لكنه لم يحصل على الأصوات التي تؤهله للفوز، وبعدها بأشهر قليلة، كان أول من أعلن تقدمه بأوراق ترشحه لانتخابات الرئاسة الليبية، وكان مقررا إجراؤها في ديسمبر 2021، وعقب تأجيل الانتخابات قرر الملازم طيار الترشح لرئاسة الحكومة الليبية الموحدة للمرة الثانية، ونجح هذه المرة في حصد جميع أصوات أعضاء البرلمان الليبي.


مواضيع متعلقة