الرخصة الموحدة للاتصالات.. «جنين لم يكتمل»

كتب: جمال محمد غيطاس

الرخصة الموحدة للاتصالات.. «جنين لم يكتمل»

الرخصة الموحدة للاتصالات.. «جنين لم يكتمل»

وسط الجدل المتصل والتصريحات الغامضة أحياناً والمتعارضة غالباً وعدم الحسم دائماً.. لا أجد وصفاً لقضية «الرخصة الموحدة للاتصالات» سوى أنها أشبه بجنين على وشك التكوين، الكل يريد أن يكون أباه، حتى يأتى على هواه، فلا يفرط فى مكسب تعوّد «الأب» عليه، أو يهادن فى صد تحدٍ يواجهه أو سيواجهه، أو يتهاون فى تضييع فرصة، أو يكون رحيماً فى الضغط على منافس ينغص عليه بعض أو كل أوقاته، وهذا الاتجاه قرين سلوك جميع الأطراف، شركات المحمول التى تريد أن تكون الرخصة وسيلة لمواصلة امتصاص الربح والعائد لأقصى مدى بلا توقف وبلا حدود للتوسع، و«المصرية للاتصالات» التى تريد أن تكون الرخصة وسيلة للإبقاء على المزايا المكتسبة والتاريخية وحائط صد ضد التحديات المقبلة، والحكومة التى تصر على أن تكون الرخصة وسيلة للجباية لأقصى مدى، لتعود للسلطة وبين يديها ما تقول إنه شىء مفيد للخزانة العامة الضامرة، والمستثمرين من كل صنف ولون داخل صناعة الاتصالات وما يلحق أو يرتبط بها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، الذين يريدونها منفذاً للتوسع والبحث عن فرص جديدة. وسط الهوس والشغف لدى كل طرف أن يكون هو «الفاعل» لحظة تكوين الجنين، ضعف وربما غاب عن المشهد الأب الشرعى لهذه الرخصة، وهى القواعد التى يتعين أن تفرض سلطانها على الجميع، وفقاً لما تقضى به المصلحة العامة وقيم العدالة والشفافية والتنافسية والبصيرة الثاقبة فى النظر إلى المستقبل. بعيداً عن الأطراف المتصارعة على «أبوة» هذا الجنين، سنحاول فى هذا التحليل الذى سيمتد لعدة حلقات أن نضع أمام الرأى العام قدراً من المعلومات والبيانات التى تجعله يحكم على كل طرف وهو يحاول انتزاع أبوة الجنين، وهل يقدم على ذلك وفق شهوات مشروعة أم نزوات محرمة. السؤال الأول الذى يتعين البدء به فى هذه القضية هو: ما الذى نتحدث عنه؟ بعبارة أخرى: ما الرخصة الموحدة؟ وماذا تعنى بالضبط؟ وماذا يقصد بهذا المصطلح؟ أبسط وأقصر تعريف لها أنها: (وضع قانونى من قبل الدولة، يمنح من يحصل عليه الحق فى تقديم كل أشكال الاتصالات وخدماتها باستخدام أى تكنولوجيا). يبدو التعريف للوهلة الأولى بسيطاً وسهلاً ومفهوماً، لكن عند تفكيكه لعناصره الأولية لا يبدو كذلك على الإطلاق، فهو يتضمن ثلاث نقاط: أشكال من الاتصالات، أشكال من الخدمات، أشكال من التكنولوجيات المستخدمة. إذا اقتربنا أكثر من هذا التعريف، سنجد أن النقاط الثلاث مترابطة وتشكل معاً ما يطلق عليه «نظام الاتصالات»، الذى يعنى بدوره «إرسال محتوى من نقطة واستقباله فى أخرى بين طرفين، عبر وسيلة أو أداة للنقل، وطريقة تضبط الإرسال والاستقبال». ينطبق هذا التعريف على كل أشكال الاتصال أو لنقل «التواصل الإنسانى» التى يمكن إجمالها فى ثلاثة أشكال رئيسية: الأول: اتصال بالصوت والصورة وهو الذى شكل العماد الأساسى لصناعة الاتصالات. الثانى: اتصال بالبيانات والمعلومات وهو المسار الذى سلكته صناعة الحاسبات وتكنولوجيا المعلومات وشبكاتها. الثالث: اتصال جماهيرى وهو الذى تقوم عليه صناعات الإعلام والنشر والفنون والترفيه والسينما وخلافه من أوجه الاتصال التى تعمل وفق نموذج، مرسل واحد وأعداد كبيرة من المستقبلين، ويستخدم القسمين الأول والثانى كأدوات له. حينما نرصد مراحل التطور التاريخى للأشكال الثلاثة «للتواصل الإنسانى» سنلاحظ أنه منذ نهايات القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين كان منطق «الفرقة والانعزال» هو القاسم المشترك بين الأقسام الثلاثة، سواء فى علاقتها ببعضها البعض، أو فى العلاقات السائدة بين مكونات كل صناعة على حدة، حيث سارت كل صناعة فى طريقها، تنمى نفسها، وتعمق وجودها وتجدد آلياتها وأدواتها فى الإرسال والاستقبال والنقل وتطور المحتوى وتضبط العمليات، دونما تنسيق كاف أو تفاعل حقيقى مع الصناعة الأخرى أو بين مكوناتها الداخلية.. كيف؟ صناعة الاتصالات مثلاً بدأت بنظم تتضمن شكلاً واحداً هو الاتصال الصوتى عبر الأسلاك، الذى اعتمد على القاعدة العلمية التى تقول بتحويل الموجات الصوتية الصادرة من المرسل إلى موجات كهربائية تماثلية متصلة يمكن تمريرها عبر الأسلاك، ثم تعاد ترجمتها إلى موجات صوتية مرة أخرى عند الاستقبال ليسمعها المستقبل كما صدرت من المرسل، ووفقاً لهذه القاعدة ظهرت شبكات الاتصالات الأرضية السلكية. بعد ذلك تطورت الأمور وأضيف إلى هذا النظام شكل آخر من أشكال الاتصال، حينما اتضح أن الموجات الصوتية ليست وحدها التى يمكن تحويلها إلى موجات كهربية تمرر عبر الأسلاك، وإنما يمكن أيضاً توليد موجات أو نبضات كهربية ذات معنى محدد من خلال «الدق» أو الطرق على مفاتيح أذرع أداة معينة، ثم تمريرها بالأسلاك ليعاد استقبالها على أداة مماثلة، فظهر البرق والتلغراف، كأول شكل من أشكال الاتصال عبر تداول «البيانات» وليس «الأصوات»، ودشن ذلك أول مظاهر التعدد فى أنماط الاتصال. تطور الأمر واتضح أنه بالإمكان تحويل الموجات الصوتية والنبضات الكهربية المولدة من آلات التلغراف إلى موجات كهرومغناطيسية، يمكن نقلها عبر الهواء بترددات وأطوال موجية معينة، لتسافر لاسلكياً وليس سلكياً إلى مسافات بعيدة، ثم يعاد استقبالها وإعادتها إلى طبيعتها الأولى كموجات صوتية تُسمع عن طريق السماعات، أو موجات كهربية تترجم إلى حركات يتم التعبير عنها كتابة على الورق، وكان ذلك إيذاناً بظهور الاتصالات اللاسلكية. تسارعت وتيرة التطور فى صناعة الاتصالات سلكياً ولاسلكياً بمعدلات فائقة بعد ذلك، لتظهر الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، وحتى العقود الأخيرة من القرن الماضى كانت الاتصالات بكل أشكالها وقنواتها تعمل بمفهوم النقل التماثلى المتصل «الأنالوج». على التوازى مع ذلك وعلى مسافة بعيدة، طورت ثورة الحاسبات وتكنولوجيا المعلومات التواصل الإنسانى القائم على البيانات والمعلومات، وقدمت نظم اتصال بين ماكينات وأجهزة يتفاعل معها مستخدموها عن طريق الكتابة والطرق على الأزرار فقط، ويتداول داخلها محتوى من البيانات فقط، وفى مسيرتها اعتمدت صناعة الحاسبات وتكنولوجيا المعلومات على مفهوم يختلف جذرياً عن مفهوم التواصل بالموجات التناظرية المتصلة «الأنالوج»، وهو مفهوم تقسيم الموجة أو النبضة الكهربية الصادرة عن لوحات المفاتيح إلى أجزاء صغيرة، ثم التعبير عنها رقمياً برقمين اثنين فقط هما الصفر والواحد، ثم تجميع هذه الأرقام بطريقة تتابعية معينة ووضعها فى مجموعات، كل مجموعة منها تعبر عن معنى محدد، وأطلق على هذه المجموعات لفظة «الحزم» التى أصبحت فى حقيقتها بيانات تسافر عبر الأسلاك أو عبر الهواء، ومن هنا نشأ الاتصال الرقمى، أى الذى يتحول فيه أى محتوى صادر عن المرسل إلى مجموعات من البيانات والأرقام، موضوعة فى حزم، تنقل عبر الشبكات ثم تعاد لصورتها الأصلية عندما يتلقاها المستقبل. فى مسار ثالث كانت صناعات الإعلام المطبوع والمرئى والسينما والتأليف والنشر والترفيه تمضى بالتواصل الإنسانى فى طريق يقترب اقتراباً سطحياً من القسمين السابقين بلا أى توافق أو تلاحم حقيقى، وتكتفى فقط بأن تأخذ منهما خدمات تعينها على أداء وظائفها لا أكثر. سارت الأمور على هذا النحو منذ ستينات القرن الماضى وحتى مطلع القرن الحالى، كل صناعة تمضى فى طريق، لا أحد يفهم الآخر، ولا يتكامل معه، الاتصالات تنقل محتوى تناظرياً «أنالوج» متصلاً، والحاسبات وتكنولوجيا المعلومات تتعامل فى محتوى رقمى مقطع وموضوع فى حزم، والإعلام والترفيه والسينما تأخذ من كل بطرف على استحياء وبصورة سطحية، وتعمق استخدامها لأدواتها الخاصة من الورق والبث الإذاعى والتليفزيونى التناظرى والتسجيل على الأفلام الخام وغيرها. لم يكن مبدأ «الفرقة والانعزال» مقصوراً على العلاقة بين الصناعات الثلاث وبعضها البعض فقط، بل ترسخ وتعمق داخل الصناعة الواحدة، وحينما ظهرت الاتصالات المحمولة نهاية الثمانينات، فعلت الشىء نفسه وراحت تعمل وفق نموذج خاص بها، وجرى تصنيفها على أنها نمط جديد من أنماط الاتصالات، وفى صناعة تكنولوجيا المعلومات، عملت الشبكات الصغيرة بالمكاتب والمنازل والشركات بمعزل عن قواعد البيانات العملاقة التابعة للمؤسسات الكبرى والحكومات، ثم ظهرت «الإنترنت» وظلت لسنوات طويلة كياناً مستقلاً، تتخوف الكثير من المؤسسات والأفراد من الارتباط به، وفى النهاية ظل الجميع لا يحقق اتصالاً كبيراً ومباشراً مع الجمهور العام. كان من المحتم أن يترك هذا الواقع المفتت والمجزأ آثاره على الإطار القانونى الذى يحكم هذه الأنماط المتنوعة، فأفرز أوضاعاً وإجراءات قانونية تناسبه، تجسدت فى النهاية فى صورة «تراخيص» أو سجلات تجارية أو خلافه، تصدرها السلطات المختصة لكى تنشئ أوضاعاً قانونية توضح القواعد والحقوق والواجبات التى تحكم أداء من يعمل أو يستخدم أو يستفيد من هذا النشاط أو ذاك، وعملياً اتخذ الأمر أشكالاً متنوعة، اختلفت فى صناعة الاتصالات عنها فى صناعتى التكنولوجيا والإعلام. ولأن صناعة الاتصالات احتوت، على تنويعات داخلية هائلة، والفضائى عبر الأقمار الصناعية وغيرها، فقد نشأ بالتبعية إطار قانونى عُرف بنظام التراخيص المتعدد أو المتنوع، وهو نظام يقوم على إصدار رخصة أو منح وضع قانونى لكل من يقدم أو يعمل فى شكل من الأشكال السائدة فى صناعة الاتصالات، والمحتوى الذى ينقله، والتكنولوجيات التى يستخدمها فى نقل المحتوى، والخدمات التى يقدمها. فى كنف هذا النظام ظهر الكثير من الرخص وتعددت وتتابعت، بمعنى أنه كلما ظهر نمط جديد للاتصال أو تكنولوجيا جديدة أو خدمة جديدة، كان يجرى العمل على إعداد وضع قانونى خاص بها، وتجسيده فى «رخصة» تناسبها، وبحكم التطور السريع فى هذه الصناعة تتابعت الرخص الصادرة فى مجال الاتصالات وتنوعت حتى شملت ما يلى: على النحو التالى: أولاً: الرخص الخاصة بخدمات الاتصالات الثابتة وتضم رخص: - إنشاء وتشغيل وإدارة وتأجير بنية أساسية لشبكات الاتصالات وتقديم خدمات الاتصالات واستخدام حيزات ترددية. - تقديم خدمة التليفونات العامة. - خدمة الكروت سابقة الدفع للتليفون الثابت. - إنشاء البنية التحتية للتأجير. - إنشاء البنية التحتية للتأجير «أبراج». - إنشاء وتشغيل شبكات إتاحة خدمات الاتصالات داخل المجتمعات العمرانية المغلقة. - خدمات التتبع الآلى للمركبات. ثانياً: الرخص الخاصة بخدمات الاتصالات الدولية، وتضم رخص: - إنشاء وتشغيل بوابة اتصالات دولية. - إنشاء وتشغيل وتأجير شبكة كوابل بحرية وبنية أساسية للاتصالات الدولية. ثالثاً: الرخص الخاصة بخدمات الاتصالات المحمولة وتضم رخص: - تقديم خدمة الرسائل النصية الجماعية والمنفردة. - إنشاء وتشغيل شبكات «جى إس إم» من الجيلين الثانى والثالث. - تقديم خدمة الرسائل النصية القصيرة المفردة. رابعاً: الرخص الخاصة بالخدمات الفضائية وتضم رخص: - تقديم خدمات الاتصالات الفضائية الشخصية المتنقلة عن طريق نظام الثريا. - تشغيل نظام الثريا لتقديم خدمات الاتصالات الفضائية الشخصية المتنقلة. - تقديم خدمات انمارسات. - تشغيل نظام انمارسات. - تقديم خدمات الاتصالات الفضائية الشخصية المتنقلة عن طريق نظام إيريديوم. - تشغيل نظام الإيريديوم. - إنشاء وتشغيل أقمار صناعية «نايل سات» - تقديم خدمات اتصالات فى الملاحة والطيران والبحرية. - تصريح تشغيل التليفون المحمول على الطائرات. - تقديم خدمات اتصالات بنظام فى سات. خامساً: الرخص الخاصة بخدمات الترنك اللاسلكى وتقدم فيها رخصة تشغيل ترنك لاسلكى. هل استطاع نظام الترخيص المتنوع والمتعدد تلبية احتياجات التطورات المتلاحقة فى صناعة الاتصالات وفى أشكال التواصل الإنسانى الأخرى؟ وهل كان هذا العدد الضخم من الرخص هو نهاية المطاف؟ الإجابة هى لا، لأن الأمور ازدادت تعقيداً وتطوراً حتى بات التعدد فى الرخص معضلة يتعين إعادة النظر فيها.. كيف؟ إلى الأسبوع المقبل.