هل انتهى عهد الدولة الوطنية؟!

تشهد المنطقة العربية تغيرات استراتيجية جذرية وتحولات عنيفة، أغلبها تم بعد ثورات الربيع العربى.. حتى لكأنك تقف أمام عالم عربى غير الذى كنا نعرفه من قبل. ولعل أهم التغيرات هو تفكك الدولة الوطنية وسيادة الجماعات والميليشيات. لقد شهد جيلى قوة الدولة الوطنية وسيادتها الكاملة على أرضها وبأسها الشديد فى مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية وعشنا مرحلة الحاكم القوى المسيطر على مقاليد الأمور، والذى تتبعه دولة موحدة.. ورأينا «عبدالناصر والسادات ومبارك» فى مصر.. وعبدالسلام عارف وصدام حسين فى العراق.. وحافظ الأسد فى سوريا.. و«القذافى» فى ليبيا.. وعلى صالح فى اليمن. صحيح أن معظم هؤلاء الرؤساء كانوا يحكمون بمنطق الفرد لا المؤسسات، وبمنطق الديكتاتور سواء كان عادلاً أو ظالماً أو وسطاً بينهما.. وفى غياب نظام ديمقراطى حقيقى.. ولكن كل هذه الدول كانت موحّدة وقوية ومتماسكة، على الأقل داخلياً. أما الآن وبعد عدة سنوات من ثورات الربيع العربى، فإننا نرى أن الدولة الوطنية تتهالك وتتهاوى وتتمزق وتحل محلها جماعات أو ميليشيات أو حركات مسلحة، بعضها سنى أو شيعى أو تكفيرى. الغريب أن هذه الجماعات لا تضم جنسية الدولة التى تقيم بها فحسب، ولكنها تضم عشرات الجنسيات.. أى أن بعضها يعد تنظيماً عولمياً.. مثل «داعش» التى تضم عشرات الجنسيات فى داخلها فى منظومة غريبة لم تعرفها الدول الوطنية العربية. 1- نظرة واحدة إلى العراق، ترى أن «داعش» هى المتحكم الرئيسى والقوى فى وسط العراق السنى. أما مناطق الشيعة الأخرى وبغداد، فتسيطر عليها الميليشيات الشيعية مثل ميليشيا «عصائب أهل الحق». وميليشيا جيش المهدى التى تسيطر على جنوب بغداد وسامراء ويتزعمها مقتدى الصدر.. وميليشيات بدر التى يتزعمها هادى العمرى.. أما ميليشيات وجيش البشمركة، فتسيطر على كردستان. وكل هذه الميليشيات أقوى من الجيش العراقى وأكثر جاهزية منه.. ويمكننا القول، مطمئنين، إن دولة العراق تحكمها هذه الميليشيات وتتحكم فيها تماماً. 2- أما سوريا فيسيطر عليها «الجيش السورى الحر» من ناحية وجيش النصرة من ناحية أخرى.. «والجيش السورى الحر» قريب من الإخوان المسلمين والتيارات الليبرالية.. أما جيش النصرة فهو ابن من أبناء «القاعدة». 3- أما ليبيا، فقد سيطرت عليها عدة ميليشيات مسلحة، معظمها ذات توجه إسلامى تكفيرى.. وبعضها يجمع بين البُعد الإسلامى والعشائرى.. وبعضها يميل إلى الإخوان المسلمين، مثل «فجر الإسلام». أما تنظيم «أنصار الشريعة»، فهو ابن من أبناء «القاعدة».. 4- اليمن: احتفل اليمن منذ سنوات بتوحد اليمن الجنوبى مع الشمالى.. وكان أعظم الإنجازات التى تمت فى عهد «صالح». وإذا بالزمان يعود إلى أسوأ مما كان عليه قبل وحدة اليمنيين فإذا بتنظيم القاعدة يضرب بأنيابه فى أطراف اليمن الذى يعد بلداً نموذجياً ومثالياً لنشأة التنظيمات التكفيرية المسلحة.. وإذ بالحوثيين يصبحون القوة الكبرى والمهيمنة والمسيطرة على اليمن.. وقد ظلت قوتهم تتعاظم وتقوى حتى استولت مؤخراً على العاصمة اليمنية وعلى مدن استراتيجية مهمة فى اليمن.. ويحاول الحوثيون محاكاة حزب الله اللبنانى فى كل شىء.. تنظيماً وتسليحاً وتدريباً وإعلاماً.. والفرق الوحيد بينهما هو الفرق بين الشخصية اللبنانية والشخصية اليمنية. ويُنسب الحوثيون إلى مؤسس حركتهم حسين الحوثى الشيعى الزيدى. ويتلقى الحوثيون منذ نشأتهم دعماً قوياً من إيران وحزب الله.. ورغم ما كان من عداء بين الحوثيين الشيعة، وبين على عبدالله صالح وأنصاره، من خصومات، فإن السياسة قد جمعتهما سوياً ضد الرئيس اليمنى الحالى عبدربه منصور هادى. ولولا خوف الحوثيين ومن يخطط لهم من الغضب الدولى لسيطروا على باب المندب وهددوا الملاحة لخصومهم جميعاً.. وما أكثرهم فى البحر الأحمر. 5- أما لبنان.. فالدولة عاجزة وميتة ومنهارة تماماً، ولولا بقاء الجيش اللبنانى لما بقى من كيان الدولة شىء.. فاللاعب الأساسى فى لبنان هو حزب الله.. وهو أعقل الشيعة، وهو المسيطر على كل شىء.. وهو أقوى من الدولة وأمضى سلاحاً منها وأقوى عتاداً وأكثر تماسكاً. 6- أما فلسطين فليست هناك دولة اسمها فلسطين، ولكن هناك جماعة حماس التى تسيطر كاملاً على غزة ومعظم الضفة.. وهى أعقل جماعة فى السنة.. لأنها مثل حزب الله أقرب إلى الدولة.. ولكن الجميع بلا استثناء يصر على هدم الدولة الوطنية لمصلحة الجماعة. فها هى الجماعات، حكمت وملكت وسادت وسيطرت.. فهل كانت أفضل وأحكم وأعدل وأطيب من الدولة الوطنية؟ أم أنها زادت الطين بلة.. وزادت الوضع سوءاً؟!! وهل أتت بالمفقود من الشريعة أو العدل السياسى أو الاجتماعى أو ردع الأعداء أو تحرير فلسطين؟!! أم أنها أغرقت نفسها فى صراعات مذهبية وعرقية ودينية طاحنة.. وابتعدت بالمنطقة عن الصراع العربى - الإسرائيلى الذى حرصت عليه الدولة الوطنية على الأقل ظاهراً.. ولم تحافظ على كيان الدولة.. بل مزقتها إرباً. إنه ينبغى علينا أن نعيد قراءة العالم العربى الآن من جديد وندرك أن الدولة الوطنية رغم ما كان فيها من ظلم وهضم وقصور فى العدل السياسى والاجتماعى، فإنها كانت حارساً للأوطان من التمزّق والتفتّت والتقاتل الداخلى والعرقى والدينى أو المذهبى على الأقل.. هذه دعوة فقط للتأمل.