جرائم الشرف بين حضور الأدب وغياب الفقه القانوني

«دعاء الكروان» هى رواية لعميد الأدب العربى، الدكتور طه حسين، تلقى الضوء على موضوع «جرائم الشرف»، حيث تدور أحداثها حول واقعة أساسية، وهى قيام الخال بقتل بنت شقيقته، بسبب دخولها فى علاقة جنسية خارج إطار الزواج.

وقد نُشرت هذه الرواية لأول مرة سنة 1934م، وتم تحويلها إلى فيلم سينمائى من إخراج هنرى بركات، وذلك بعد ربع قرن على صدورها، أى فى العام 1959م، حيث شارك طه حسين بصوته فى نهاية الفيلم. وقد تمت ترجمة الرواية إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وخضعت للعديد من التحليلات باللغات الأجنبية، واستوحى الشاعر اللبنانى جبران خليل جبران إحدى قصائده من أجواء هذه الرواية، وهى قصيدة «دعاء هذا الكروان الذى».

وفى فيلم «دعاء الكروان»، تلعب دور البطولة الفنانة القديرة فاتن حمامة، من خلال أداء دور الفتاة الصعيدية «آمنة»، وتدور الأحداث على شكل فلاش باك، تسترجع من خلاله المصائب والنوائب التى ألمّت بأسرتها بعد مقتل أبيها على يد طالبى الثأر، الأمر الذى يدفع بخالها، الحريص على التقاليد، إلى إبعادهم عن أجواء القرية الصغيرة بدعوى أنهم «طالما ظلّوا فيها فإن الألسنة ستلوك سمعته وشرف العائلة بما لا يرضيه، وأهون عليه رمى أخته وابنتيها إلى المجهول من أن يسمع كلاماً يمسّ الشرف».

وهكذا تسافر الأمّ (أمينة رزق) بابنتيها، هنادى (زهرة العلا) وآمنة (فاتن حمامة)، من البيئة الريفية الصارمة إلى فضاء البندر أو المدينة، التى تبدو من خلال الأحداث أنها لا تقلّ قسوة وبشاعة عما تركته الأسرة وراءها فى القرية، إذ لم تجد الفتاتان عملاً سوى الخدمة فى البيوت، وإذا كان نصيب (آمنة) العمل فى بيت المأمور وصداقة ابنته المثقفة المتعلّمة والإنسانة الرقيقة خديجة، فإن حظّ أختها العاثر قد أوقعها فى بيت مهندس الرى الأعزب والمتحلل من القيم كافة، والذى يعاقر الخمر، ويعتبر أن من حقّه كـسيّد أن يعتدى على خادمته، وهذا ما حدث لهنادى، بعد أن سقاها الخمر وغرّر بها، الأمر الذى سيُفضى إلى قتلها على يد خالها وأمام أسرتها.

وكرد فعل على هذه الحادثة، فإن آمنة، كشاهدة وضحية فى الوقت ذاته، تقسم على أن تنتقم من هذا المهندس، حيث بدأت رحلة الانتقام عندما تقدّم لخطبة خديجة ابنة المأمور، فحرصت على إبلاغ زوجة المأمور بما فعله هذا المجرم مع أختها، الأمر الذى أدى إلى فسخ الخطوبة.

وعبر فصول الرواية، سعى طه حسين إلى تعرية الواقع المصرى فى تلك الأيام من ثلاثينات القرن الماضى، ساعياً إلى تكريس القيم الحضارية ونبذ الخرافات والعادات والتقاليد البالية، التى تعيق عملية التقدّم الثقافى والحضارى.

واتساقاً مع ذلك، ارتأى عميد الأدب العربى أن تكون نهاية الرواية من خلال انتصار الحب فى قلب آمنة على الصراع بينها وبين مهندس الرى الذى كان سبباً فى قتل أختها، ويتجلى ذلك عندما تتهيّأ لها الفرصة لدسّ السمّ له فى كأس الخمرة وتكاد تقتله، لولا أنها فى تلك اللحظة الصعبة ترمى بالكأس أرضاً، معلنة أن القتل عملية بشعة وتستغرب كيف يمارسه الآخرون.

ورغم أن هذه الخاتمة تقوم على طرح البديل والعلاج لمشكلات المجتمع، من خلال نشر ثقافة الحب بدلاً من ثقافة الانتقام، فإن كاتبَى سيناريو الفيلم، وهما الكاتب يوسف جوهر والمخرج هنرى بركات، قد سارا فى اتجاه مغاير تماماً لما أراده عميد الأدب العربى، حيث ارتكزت خاتمة الفيلم على افتراض أن المهندس أخطأ وينبغى أن ينال العقاب، فعملا مجدداً على إحضار الخال القاتل، رمز الذكورة العمياء للانتقام، لتودى رصاصته بالمهندس العاشق الذى صحا ضميره واعترف بأخطائه، وأبدى استعداده للتعويض عن مأساة آمنة بالزواج منها، غير أن رصاصة الخال القاتلة أعادت الأمور إلى مربع الجريمة والانتقام.

وعلى كل حال، ورغم هذا الاختلاف بين الرواية والفيلم، فإن ذلك لا يجوز أن يشغلنا ويصرف أذهاننا عن حقيقة اهتمام الأدب العربى والسينما العربية بجرائم الشرف منذ عهد بعيد، بينما بقيت هذه الجرائم بعيدة تماماً عن اهتمام الفقه القانونى المصرى والعربى.

ولا نغالى إذا قلنا إنه لا توجد دراسة قانونية واحدة شاملة تتناول بالبحث والتأصيل لهذه والتحليل هذه الجرائم.