حين أشرقت «أم كلثوم»

أشرقت أم كلثوم على الدنيا فى آخر أيام عام 1898 (31 ديسمبر) ورحلت عن الحياة أوائل عام 1975 (فى 3 فبراير) بعد أن أبدعت فناً خالداً يستعصى على الفناء أو الاندثار.

اختزن فن الفلاحة المصرية التى ولدت بقرية طماى الزهايرة التاريخ الذى باحت به السنوات السبع والسبعون التى عاشتها فوق تراب هذا البلد الطيب، غنت للحب وللحياة وللوطن. اتهمها البعض بالتقلب وهى التى غنت للملك فاروق الأول ملك مصر والسودان، ثم شدت باسم جمال عبدالناصر وحركة الضباط الأحرار التى طردت الملك من مصر، لم يستوعب من تبنوا هذا الاتهام الظرف الإنسانى الذى يعيشه الفنان الذى يحظى بجماهيرية كبيرة فى علاقته بالسلطة السياسية، وعبروا بشكل غير موضوعى عن الدور الوطنى الذى لعبته فنانة الشرق فى الدفاع عن القضايا العربية وفى القلب منها القضية الفلسطينية، ودورها فى دعم المجهود الحربى بعد نكسة 1967.

فى زمانها كان صوت أم كلثوم الصوت الوحيد القادر على التوحيد الوطنى والعروبى. من عاش عصرها شاهد كيف كان أفراد الأسر والعائلات يجتمعون على صوتها مساء الخميس الأخير من كل شهر للاستماع إلى الإبداع الخالد المتدفق فيما تشدو به، فترق مشاعرهم بما تقذفه الفنانة الكبيرة فى أفئدتهم من معان راقية، ويشعرون بالارتباط بتراب وطنهم بما يتسرب إليهم من كلمات يترنم بها الصوت المحب للوطن، وتترقى لغتهم بالكلمات المنتقاة بعناية من العامية المصرية وبالقصائد الفصحى الكثيرة التى شدت بها «الست»، وعلاوة على ذلك يترسخ فى أعماقهم أروع معانى التسامح والمحبة والسلام الإيمانى عبر قصائدها الدينية البديعة، التى تحمل حديثاً للروح يحلق بها فى السماوات العلا.

حمل صوت أم كلثوم آهات الأمة العربية والشجن الذى يعتمل فى النفس المصرية، شرب من ماء النيل وامتص عذوبته كاملة فجاء فياضاً رقراقاً، سخياً ندياً، يحمل فى تركيبته ترانيم المعابد الفرعونية والكنائس القبطية وصوت الأذان داخل المساجد الإسلامية.

لا يستطيع وصف صوت أم كلثوم بدقة سوى الشخص الوحيد الذى عانقت نغماته شدوها فيما يقرب من 300 أغنية، وهو الموسيقار العملاق رياض السنباطى.

فى حوار قديم أجراه الراحل أنيس منصور مع «السنباطى» ونشرته بوابة «الأهرام» يصف الموسيقار الكبير صوت أم كلثوم قائلاً: «أم كلثوم فنانة لا يمكن تعويضها، إنها شىء آخر، الله سبحانه وتعالى أعطاها لنا، وقد خلقها والسماء صافية والأضواء باهرة، ومزجها مع ضوء القمر وضوء الشمس وقطرات الندى وزفها إلى الأمة العربية».

سيظل صوت أم كلثوم قادراً على العبور من زمن إلى زمن ومن جيل إلى جيل، ولا يغرنك حالة الانحطاط التى ضربت فن الغناء فى مصر بعد رحيلها وكبار فنانينا، ففقاقيع الصابون لا تعيش كثيراً لأنها تنطوى على فراغ وما أسرع أن تنفثئ، أما المحتوى الذى يحمل قيمة فيجد طريقه إلى التأثير والخلود، إنه وحده القادر على الاستمرار، لأنه يحمل قيماً ومعانى إنسانية لا يبليها الزمان.