رأس الحسين.. صرخة الحق

مع حلول الأسبوع الأخير من شهر ربيع الآخر، تبدأ الطرق الصوفية احتفالها بذكرى استقرار رأس الإمام الحسين بن على بالقاهرة، للتواصل حتى نهايته.

تعلم أن جنود عبيد الله بن زياد بن أبيه لم يكتفوا بقتل حفيد النبى، صلى الله عليه وسلم، بل اجتزّوا رأسه أيضاً وأرسلوه إلى حيث يحكم يزيد بن معاوية، ثانى خلفاء الدولة الأموية بالشام.

اختلف الرواة والحكاءون فيما يتعلق بموقف يزيد عندما جىء إليه برأس الحسين، فهناك مَن يقول إنه أخذ يعبث فى ثغره الشريف بقضيب فى يده وينشد: «لعبت هاشم بالملك.. فلا خبر جاء ولا وحى نزل»، وهناك من يذهب إلى أن «يزيد» بكى عندما رأى الرأس الشريف وقال: «لو كان بين ابن زياد -قاتل الحسين- وبينه رحم ما فعل هذا».

وواقع الحال أن كلا الخبرين يمكن نفيهما بضمير مستريح، فقد كان يزيد مؤمناً بالله ورسوله، ولم يكن من الحمق بحيث يردد مثل هذا القول، وفى الوقت نفسه حدوتة بكائه لا تتناغم مع موقفه الشرس من «الحسين» حين علم بخروجه عليه ومنابذته له فى الحكم.

المنافسة بين الطرفين كانت سياسية فى المقام الأول، بغض النظر عن محاولات الشيعة القدح فى شخص «يزيد»، عبر الحديث عن تشكيكه فى الدين، ومحاولات السنة الدفاع عنه وتبيان أنه انتحب على «الحسين» حين رأى رأسه.

اختلفت الروايات حول مكان دفن رأس الحسين. فمن المؤرخين من يذهب إلى أن يزيد بعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد، نائب المدينة، فدفنه عند أمه (السيدة فاطمة رضى الله عنها) بالبقيع، وهناك من يقول إن الرأس ظل فى خزائن «يزيد» حتى تم دفنه بدمشق بمنطقة «باب الفراديس». والحديث عن احتفاظ «يزيد» بالرأس لا يتسق مع العقل، والأرجح أنه تم دفنه مباشرة بالمسجد الذى عُرف فيما بعد بمسجد الرأس.

ويقول «ابن كثير» فى «البداية والنهاية»: «وادعت الطائفة المسماة بالفاطميين الذين ملكوا الديار المصرية قبل سنة أربعمائة إلى ما بعد سنة ستين وستمائة أن رأس الحسين وصل إلى الديار المصرية ودفنوه بها وبنوا عليه المشهد المشهور به بمصر الذى يقال له تاج الحسين بعد سنة خمسمائة. وقد نص غير واحد من أئمة أهل العلم على أنه لا أصل لذلك وإنما أرادوا أن يروّجوا بذلك بطلان ما ادعوه من النسب الشريف وهم فى ذلك كذبة خونة».

لست أظن أن «ابن كثير» محقٌ فيما ذهب إليه، لأن من المعلوم أن الفاطميين سيطروا على الشام والحجاز، وكان من الطبيعى أن ينبشوا القبر الشريف وينقلوا رأس الحسين إلى مركز حكمهم بالقاهرة. أما تشكيك «ابن كثير» فى مسألة نقل رأس الحسين إلى مصر من زاوية أن الفاطميين ادعوا ذلك حتى يروجوا - زوراً- لنسبهم إلى البيت النبوى، فقد تكفل «ابن خلدون» بالرد عليه فى مقدمته، حين أثبت بما لا يدع مجالاً للشك نسب الفاطميين إلى «إسماعيل بن جعفر».

رضى الله تعالى عن صاحب المقام الرفيع الحسين بن على، صرخة الحق التى خرجت احتجاجاً على الظلم وبحثاً عن الدولة الديانة، ولم يكن هناك مَن هو أكثر أهلية منه فى عصره للقيام بهذه المهمة، لكن غاب عنه أن للسياسة ومواجهات السياسة حسابات أخرى!.