مارسيل خليفة.. صوت يحرض على الحياة

مارسيل خليفة.. صوت يحرض على الحياة
شعر أبيض تغزوه بعض الشعيرات السوداء، عينان مضيئتان تحملان داخلهما ذلك الحلم القديم والوطن والحياة، ومن بين ثنايا جبال لبنان الشامخة استمد صوته، ومن جمال شجر الأرز استمد عوده ليعزف به ألحان الحياة الساحرة حين تمتزج بصوته الواضح الشجي، فيعطي كل ما يملكه من ألحان ويحتفظ بكل الحب والعيون المترقبة التي لا تحمل سوى رسائل فرح، تحمل نسائم الحب والحرية في موسيقى تطوف بالوجدان.
مارسيل خليفة، قيثارة الحب والأرض والخبز، موسيقى عوده تعيد في النفوس ليالي الأندلس وبغداد القديمة، وصوت يحرِّض على الحرية والانتماء والحياة، فنجح في خلق تجربة فنية فريدة أن يسافر بدراويشه إلى عوالم الفن الراقي، وأن يصبهم بتلك "العدوى" ليروا النور من خلال صوته، ويرى في الموسيقى لفرقته الدائمة فيقول "الموسيقى شريكة حياتي، هي النفس الذي أعيشه يوميًا، هي حلمي الجميل الذي يمنحني لذة نادرة، عشت الحرب والهجرة والمنفى وكانت الموسيقى تحميني وتعطيني قوة للأمل.. للحلم.. للصمود".
لم تختلف نشأة مارسيل خليفة عن كتير من أهل لبنان في ذلك الوقت، إلا أن ميلاده في بلدة عشميت بجبل لبنان أعطته القوة والصلابة بشكل كبير، فكان والده يعمل سائق أجرة في القرية ليوفر العيش لأسرته المكونة من زوجته وأبنائه مارسيل وأنطوان وشقيقاتهما الأربع، وفي خلال طفولته بدأ العزف على العود لتغزل يده على أوتاره صداقة قوية تجاوزت النصف قرن، وفي عام 1976 ترك خليفة لبنان إلى العاصمة الفرنسية باريس برفقته مجموعة من أصدقائه اليساريين، حيث لم تكن لبنان وقتها تستوعب وجود الميول اليسارية، ليصدر أول أسطوانة له في حياته الفنية وشملت أربع قصائد لمحمود درويش، منها أغنيته الشهيرة "جواز سفر" ولحنها في طريق سفره من لبنان إلى باريس، وكانت الأغنية تتناسب مع حالتها وقتها، وكان مطار بيروت مغلقًا حينها، فاضطر إلى السفر بالطريق البري.
"لم نتوحد مع الكون بل توحد الكون فينا" بكلمات بسيطة نجح مارسيل أن يصف العلاقة الفريدة بينه وبين الشاعر الفلسطيني محمود درويش، والتي تجاوز 30 عامًا ولم تنتهِ بموت الشاعر الفلسطيني فما زالت أعمالهم المشتركة تحمل ذكراهم معًا، فغنى مارسيل قصائد درويش، لمدة 7 سنوات دون معرفة شخصية به ليقابله لأول مرة في العاصمة الفرنسية باريس، ليشكلا بعد ذلك أهم ثنائي غنائي شعري في الوطن العربي قدَّما من خلاله عددًا كبيرًا من الأغاني عشَّشت في الوجدان العربي وسَكَنها، واختصرت وجوهًا وحيوات هاربة، من أهمها "أحن إلى خبز أمي"، و"ريتا" التي ألقاها درويش وغناها مارسيل في أول حفلة جمعت بينهما عام 1988 في الأونيسكو بفرنسا، وغيرها الكثير من الأغاني الهامة التي خلَّدت القضية الفلسطينية، وللمرة الأولى، يعلن خليفة أنه وجد صعوبة في تلحين قصائد محمود التي انتقاها لألبومه "سقوط القمر"، "لأن محمود مش موجود".
وفي عام 2003 تعرَّض مارسيل لدعوى قضائية في لبنان لأنه استخدم آية قرآنيةً في أغنية "أنا يوسف يا أبي" والتي هي في الأصل قصيدة كتبها محمود درويش تستلهم قصة يوسف من القرآن في إسقاط على القضية الفلسطينية، ولكن تمت تبرئة مارسيل خليفة لاحقًا.
إيمان العازف اللبناني بالقضية الفلسطينية رافقه دائمًا في حياته، وأصبح بأغنياته رمزًا نضاليًا مرتبطًا بها، فيقول "أحييت حفلات في أجمل قاعات العالم لكني أحلم بالغناء في فلسطين، كنت أحب أن أقيم حفلًا في فلسطين ولكن هناك هذه الاستحالة التي تملؤني بكثير من الألم"، ظهر خليفة لفلسطين من كل أعماله خاصة تلك التي وضع ألحانها على قصائد درويش الذي شكَّل معه ثنائيًا ترجم معاناة الشعب الفلسطيني ونضاله ضد الاحتلال منذ أن غنى قصيدته "وعود من العاصفة" عام 1976 قبل أن يلتقيا، وحتى ألبومه الأخير "سقوط القمر" الذي أنتجه بعد وفاة الشاعر في عام 2008.
بدأ مارسيل في مرحلة أخرى يميل أكثر للتلحين الموسيقي دون الغناء فكانت بداية مشاريعه الموسيقية التي بدأها بمعزوفة "جدل" بالاشتراك مع عازف العود شربل روحانا، فكانت محاولة أكثر من ثورية بالنسبة لتقديم العود، قام مارسيل أيضًا بتأليف موسيقى تصويرية في العديد من مسرحيات "حلم ليلة صيف، والأندلس، الحلم المفقود، وأليسا، وملكة قرطاج".
ويمر خليفة الأن بتجربة موسيقية مختلفة بمشاركة نجليه بشار ورامي من خلال مشروعهم الفني "تريو خليفة"، في أسلوب يميل أكثر إلى الحدة والتمرد بعيدًا عن "وردية" والدهما، ويتجاوز فيه الأب شهرته الكبيرة وعقوده الثلاثة في الإنتاج الموسيقي ورؤيته الخاصة، ليتبع رؤية ولديه بانفتاح يمثل نقطة جديدة في مسيرة زاخرة تثبت أن الفن يمكن أن يغير العالم لمكان أفضل.