بيل جيتس لديه حق
لست من المرتابين فى بيل جيتس، مؤسس شركة «مايكروسوفت» العالمية، وأحد أبرز أغنياء العالم، كما أننى أيضاً لا أستسيغ اتهامه بأنه نذير شؤم ومروج للإحباط؛ إذ يبدو لى، حتى وقتنا هذا، أنه ينطلق فى مقاربته للشأن العام من إدراك جيد وحس مسئول وشجاعة فى المواجهة تحسب له لا عليه.
فى نهاية الأسبوع الماضى، حملت وسائل الإعلام الدولية رسائل جديدة من بيل جيتس، وهى رسائل شغلت قطاعات كبيرة من المتفاعلين على وسائط «التواصل الاجتماعى»، كما انتبهت لها مراكز بحوث وتفكير، إذ يحذر هذا الملياردير الأمريكى الشهير من أن القادم فى مجال الأوبئة ربما يكون أسوأ مما شهدناه فى مواجهة جائحة «كوفيد - 19».
وكان بيل جيتس قد توقع أن يواجه العالم وباءً، فى مقابلة أجراها عام 2015، وعبّر آنذاك عن عدم رضاه عن طريقتنا فى الاستعداد لمواجهة مثل هذا الوباء، وفى تلك المرة هو يعود للتحذير مجدداً، لكنه لا يقف عند حدود حدوث جائحة طبيعية يسببها فيروس عادى، وإنما يدق ناقوس الخطر من إمكانية أن تستخدم بعض الدول والجماعات الإرهابية الهجمات البيولوجية لتحقيق أهداف سياسية.
لقد كانت الخسائر التى سببها «كوفيد - 19» للبشرية كبيرة وموجعة جداً، وقد استطاعت تلك الجائحة أن تؤثر فى مسارات السياسات الدولية والاقتصاد العالمى، وأن تعيد تشكيل طبيعة التحديات التى تواجه العالم، وهو أمر ربما يعزز الميل إلى استخدام الهجمات البيولوجية من بعض الفاعلين الدوليين والمحليين، للاستفادة من هذا التأثير الضخم وممتد الأمد فى آن واحد.
والواقع أن بيل جيتس لديه حق فى تحذيره للعالم من خطورة مواجهة وباء آخر قادم من دون استعدادات كافية، كما حدث حين باغتنا «كوفيد - 19»، وهو أيضاً محق فى أن يتوقع احتمالات أن يكون هذا الوباء القادم جزءاً من حرب بيولوجية أو استهداف إرهابى باستخدام الأوبئة.
ويخبرنا التاريخ أن استخدام الأسلحة البيولوجية ظل جزءاً من أدوات الحرب والإرهاب على مر العصور، وإلا ما احتاجت دول العالم إلى توقيع اتفاقية الأسلحة البيولوجية عام 1972، ورغم وجود مثل هذه الاتفاقية، فإن ثمة مؤشرات وأدلة تشير بوضوح إلى أن دولاً عديدة، وتنظيمات أقل من الدولة، تفرز موارد ضخمة وتنشئ آليات علمية مستديمة لتطوير وسائل حرب بيولوجية.
ويعد أبسط تعريفات الحرب البيولوجية هو ذلك التعريف الذى يحددها فى استخدام أحد أنواع الفيروسات أو الميكروبات أو البكتيريا المعروفة فى إحداث أضرار صحية محددة سلفاً فى الأعداء أو المستهدفين، بغرض تحقيق هدف سياسى.
أما «الإرهاب البيولوجى»، أو «العمليات البيو - إرهابية»، فقد عرّفته دراسة أكاديمية تم نشرها فى مجلة «الأبحاث البيوطبية» الأمريكية، فى عام 2017، بأنه: «استخدام الكائنات الحية الدقيقة مثل البكتيريا والفيروسات والفطريات أو السموم من قبَل الإرهابيين أو الجماعات المتطرفة لإنتاج أسلحة تسبب الموت أو المرض بين البشر والحيوانات بغرض تحقيق أهداف سياسية».
تقوم بعض الدول بتطوير أسلحة بيولوجية من أجل تحقيق التوازن فى الدفاع، أو إيقاع أكبر قدر من الضرر فى صفوف الأعداء بأقل تكلفة ممكنة، وهذا الأمر ليس طارئاً فى تاريخ البشرية، بل هو قديم ربما بقدم الصراعات المسلحة المُنظمة نفسها.
ويسود اعتقاد بين مؤرخى الحروب بأن أول استخدام للحرب البيولوجية كان فى أثينا فى العام 430 قبل الميلاد، حينما تم استغلال مرض الطاعون، كما تقول موسوعة Collier’s Encyclopedia الفرنسية، التى أفادت أيضاً بأن «الجنود الفرنسيين ربما استخدموا الألبسة الخاصة بمرضى الجدرى فى نشر المرض بين الهنود الآزتيك، خلال الحرب الفرنسية فى المكسيك، ما أوقع آلاف الضحايا».
ورغم أن العالم لا يعرف حوادث إرهابية كبيرة تم استخدام السلاح البيولوجى فيها، فإن السلطات فى أكثر من دولة أعلنت إحباط محاولات لشن هجمات بواسطة وسائل بيولوجية. ففى عام 2018، ألقت السلطات الألمانية القبض على تونسى من المرتبطين بتنظيم «داعش» يُدعى «سيف الله»، بعدما تلقت اتصالاً من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سى آى إيه) حوى معلومات تفيد بأنه اشترى كمية كبيرة من بذور نبات الخروع عبر «الإنترنت»، ما مكنه من إنتاج مادة «الريسين» الشديدة السُمية؛ وهى مادة يمكن أن تقتل المستهدفين بها.
وقد أثارت هذه الواقعة قلقاً كبيراً فى الأوساط الأمنية والاستخباراتية، إذ لفتت الانتباه إلى أن «داعش» أو عدداً من المتعاطفين معه والمرتبطين به، يمكن أن يستخدموا وسائل الحرب البيولوجية كسلاح مؤثر فى معاركهم.
ومما يزيد خطورة هذه الواقعة أن «داعش» سبق أن شرح لعناصره طريقة تصنيع سم «الريسين» على «الإنترنت» بغرض استخدامه فى «إرهاب أوروبا بيولوجياً»، واصفاً إياه بأنه من السموم القوية التى لا يوجد علاج لها حتى الآن، وأنه قادر على منع إنتاج البروتين فى أجساد المصابين به، ما يتسبب فى قتل خلايا الجسم، ويؤدى إلى الموت خلال ساعات.
يجب أن يأخذ العالم تحذيرات بيل جيتس على محمل الجد؛ وهو على أى حال لم يكتف بإثارة التشاؤم وتوقع المآسى، لكنه قدم أيضاً مقترحات للمواجهة؛ ومن بين تلك المقترحات أن يخصص العالم مليارات الدولارات لمواجهة كوارث بيولوجية (طبيعية أو مصطنعة) قد تحدث وتكلفنا خسائر بتريليونات الدولارات.
ينبغى على دول العالم أن تتخذ خطوات جادة وسريعة نحو إعادة تشخيص المخاطر الدولية، وأن تنشئ -عبر المنظمات الدولية والإقليمية- الآليات اللازمة للوقاية منها والتعامل المسبق مع احتمالات وقوعها.