فقه الكمون

ماهر فرغلى

ماهر فرغلى

كاتب صحفي

مع تصاعد الانقسامات بين قادة الإخوان، ممثلين فى محمود حسين وإبراهيم منير، تشير بعض التقديرات إلى أن ذلك يمكن أن يكون مخططاً له بعناية من قِبل الجماعة ذاتها من أجل الترويج لتلك الحالة وتمرير مجموعة على حساب أخرى فى خطة مرحلية ممنهجة.

ورغم الخلافات العاصفة التى ظهرت إعلامياً بشكل لم يسبق له مثيل، فإن الرأى السابق له استنادات كثيرة أهمها هو العمل الكامن الذى كان يعتمد عليه التنظيم دائماً.

العمل الكامن هو المنطلق الأساسى للإخوان، وهو ما يطلقون عليه (العمل المرحلى) استناداً لسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) والمرحلة المكية، التى كان العمل فيها سرياً، إذ إن حركية السيرة النبوية فى المرحلة التالية المدنية تختلف جذرياً عن الأولى، التى تسمح بالكمون والسرية الشديدة.

فى النماذج المعاصرة تختلف حركية التيارات ما بين (فقه التمكين) و(فقه الاستضعاف) الذى سيسمح بالكمون، والتلون وارتداء الأقنعة المختلفة، حتى يحين الوصول للهدف، مثال النموذج الكامن لتنظيم الإخوان؛ الذى عبّر عنه المؤسس حسن البنا فى 1938م بقوله: «إن الإخوان دعوة سلفية، طريقة صوفية، هيئة سياسية، جماعة رياضية، رابطة علمية ثقافية، شركة اقتصادية، فكرة اجتماعية»، وقد صنّف ذلك «رفعت السعيد» بقوله: «قد يتصور البعض أن فى هذا نوعاً من التخبّط، لكننى أعتقد أنه تخبّط مقصود لذاته، ومخطط بشكل محكم لكى تظل الجماعة قادرة على التعامل على أى وجه، وفى أى محيط، وكى يمكنها أن تتقلب لتتلاءم مع أى تقلب يطرأ على المستجدات».

إذاً ما بات يسمى اليوم بـ(الخلايا النائمة) ليس اعتباطياً، فهو مستمد من طبيعة الحركة، التى تشعر بأنها فى مرحلة استضعاف يستوجب عليها الكمون، ويوجب عليها عقدياً هدم المجتمعات من الداخل، وهو ما يُعرف فى أدبيات الجماعات المتطرفة بأنه الحالة التى تكون فيها الجماعة المسلمة ضعيفة غير قادرة على إظهار الإسلام وتطبيق «الشرع» بسبب عدو أو سلطان جائر، وأما «التمكين» فهو يعنى السيطرة المسلحة على بلد أو منطقة ما لإقامة «الدولة الإسلامية».

تكشف كتابات منظرى الحركة، ومنهم سيد قطب، أن علاقة الحركة الاغترابية الاستعلائية تنظم أفراد هذه الخلايا للعمل من أجل تحقيق الهدف، ومن دون هذا لن تتمكن هذه الجماعات من تحقيق تصوراتها وعقائدها على أرض الواقع.

كما تكشف هذه الكتابات المساحة الهائلة التى تحتلها فكرة العزلة والكمون فى مخيال التيارات الدينية، فمصطلحات «العزلة» أو «الهجرة والابتعاد عن المجتمع»، و«تكوين العصبة المؤمنة»، شرط أولى للانتماء التنظيمى، حسب تعبير سيد قطب.

يعزّز «قطب» فكرة العزلة فى كتابه «معالم فى الطريق» باستدعاء مصطلحات من قبيل (الاستعلاء والمفاصلة) مع المجتمعات الجاهلية القائمة، إذ ينبغى على العصبة المؤمنة أن تنفصل وتنعزل عن هذه المجتمعات، حفاظاً على نقائها، لا سيما خلال فترة التكوين، يقول: «لا بد إذاً فى منهج الحركة الإسلامية أن نتجرد -فى فترة الحصانة والتكوين- من كل مؤثرات الجاهلية التى نعيش فيها.. لا بد أن نرجع إلى النبع الخالص.. لا بد إذاً من القطيعة مع الجاهلية والاستعلاء عليها ثم تغييرها».

مع تأسيس جماعة التكفير والهجرة فى مصر على يد شكرى مصطفى خلال عقد السبعينات من القرن الماضى، اكتسبت فكرة العزلة والكمون زخماً كبيراً، بمرور الجماعة بمرحلتين؛ أولاهما الاستضعاف التى تتم فيها الهجرة إلى الكهوف والجبال والصحراء، ثم بعد ذلك تبدأ الثانية «مرحلة التمكين»، حيث الصدام مع دار الكفر، وذلك وفق دراسة لمركز المستقبل للدراسات.

خلال هذه المرحلة، تبتعد الحركات عن الانخراط والمشاركة فى النقاش السياسى الدائر، مع الاستمرار فى إرسال إشارات للسلطة الحاكمة تحاول من خلالها الإيحاء بأنها على ولاء تام للدولة ولأولى الأمر، وفق ما ورد لحوار سابق لنائب مرشد الإخوان الأسبق محمد حبيب، وقد تصل فى بعض الأحيان، إلى درجة التطرّف فى الدفاع عن رموز الدولة، فى محاولة منها لكسب رضا السلطة السياسية للسماح لها بهامش أكبر من المناورة والتحرك»، ولعل هذا ما كانت تقوم به جماعة الإخوان.

وتستعين التنظيمات النائمة الكامنة بحديث (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان)، ويرون أن السرية تحقق الحماية للتنظيم وللقيادات، وتمنع الاختراق والتجسّس وتحقق الأهداف بأقل تكلفة.

لذا سوف تتضمن حتميات المواجهة بعض الأطروحات المتصلة بتصويب الأفكار لدى الشباب للحد من عمليات استقطاب عناصر شبابية جديدة للتنظيمات المتطرفة والإرهابية.