هل تعود سوريا؟

فى الأسبوع الماضى كشفت صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية عن «وثيقة أردنية سرية» للتعامل مع سوريا بشكل يُحدث قطيعة مع سياسات السنوات العشر الماضية، ويؤسّس لاستيعاب نظام الرئيس بشار الأسد وتأهيله، عبر تغيير متدرج فى سلوكه السياسى.

لا يمكن اعتبار أن هذه المبادرة الأردنية -التى تقول الصحيفة إنها انطوت أيضاً على تنسيق مع مسئولين فى أكثر من عاصمة من عواصم القرار الدولية- بمنزلة اختراق أو مفاجأة صادمة؛ إذ تسير التفاعلات فى الملف السورى إلى هذا المآل منذ أحكمت القوات النظامية قبضتها على المساحة الأكبر من البلاد، وتراجع خطر الإرهاب إلى درجة كبيرة، واتّخذت دول عربية كثيرة خطوات إيجابية تجاه دمشق، على صعيد تطبيع العلاقات.

ولا يبدو أن تلك المبادرة تبتعد كثيراً عما كانت تقارير صحفية كثيرة نشرته فى صيف عام 2018 عن التوصل إلى اتفاق بين الرئيسين الأمريكى (آنذاك) دونالد ترامب، والروسى فلاديمير بوتين، خلال لقائهما فى هلسنكى، على إعادة تأهيل نظام الرئيس بشار الأسد.

لم يقر أىّ من الطرفين صراحة بمثل هذا الاتفاق، لكن ما حدث تالياً منذ تلك القمة المثيرة يصب فى تعزيز المعلومات ذاتها؛ إذ يبدو أن التطورات تتّجه نحو تثبيت حكم بشار الأسد، بما يقتضيه هذا من إنهاء فكرة «الثورة السورية»، التى كانت عنواناً أساسياً فى قضايا المنطقة والعالم على مدى عقد من الزمان.

فعملياً، وبعد التدخّل الروسى الحاسم، والمساندة الإيرانية الشغوفة، ودعم «حزب الله» اللبنانى، والميليشيات العراقية، بات النظام السورى يسيطر على مساحة كبيرة من الأراضى السورية، وتضاءل إلى أقصى حد ممكن الوجود «الداعشى» أو تحكم ميليشيات «الجيش الحر» فى مساحات معتبرة على الأرض.

أما إسرائيل، فتفيد التقارير الواردة منها بأنها لا تمانع فى بقاء نظام الرئيس بشار، بعد أن تُرسى قواعد بخصوص وجود القوات الأجنبية، بحيث تضمن عدم تأثير وجود تلك القوات فى أمنها.

ويبقى بعد ذلك أن تركيا باتت أكثر اقتناعاً بضرورة بقاء نظام بشار الأسد، وهى فى ظل الضغوط الاقتصادية والسياسية التى تواجهها، باتت أقل قدرة على تصدير المتاعب إلى دمشق، فضلاً عن اقتناعها أخيراً بضرورة تغيير سياساتها الداعمة للحركات ذات الإسناد الإسلامى، فى ظل هزيمة مشروع تلك الحركات فى أكثر من بلد عربى.

ولذلك لم يكن مفاجئاً أن يرشح عن قادة أتراك أكثر من مرة قبولهم بإمكانية إعادة تأهيل نظام بشار، بعدما كانت أنقرة معول الهدم الأول والأكثر فاعلية إزاء سلطته. وفى الخليج، حدثت التطورات المتسارعة نحو تغيير منظور التعامل مع دمشق، سواء على مستوى الحوار السياسى، أو تبادل الزيارات، أو فتح السفارات، ورغم أن العلاقات الخليجية - السورية تتّجه فى مجملها نحو التحسّن على مدى العام الأخير، فإن عدداً من القضايا يبقى برسم الحسم والمفاصلة، ومن أهم تلك القضايا بطبيعة الحال حدود الدور الإيرانى فى سوريا.

وإذا استطاعت دمشق أن تقدّم رؤية متكاملة لقدرتها على إحداث التوازن بين مقتضيات إرضاء الحليف الإيرانى من جانب، وبين تهدئة خواطر العواصم الخليجية المستاءة من اتساع دور طهران فى الخريطة العربية من جانب آخر، فإن فك تجميد المقعد السورى فى الجامعة العربية سيكون ممكناً فى وقت قريب.

يقودنا ذلك إلى ضرورة طرح السؤال عن تأثيرات إعادة تأهيل نظام الرئيس بشار على الحالة السياسية فى الشرق الأوسط، وهو أمر ستكون له تداعيات كبيرة على المستقبل الجيواستراتيجى للمنطقة. أول أثر لإعادة تأهيل بشار يتمثل فى هزيمة مفهوم الانتفاضات والتمرد المسلح وإسقاط الأنظمة السياسية أمام مفهوم الاستقرار والإصلاح التدريجى كحل لمشكلات المنطقة التاريخية.

فما حدث فى تونس ومصر واليمن والعراق وليبيا وسوريا سيعطى إجابة حاسمة عن سؤال الانتفاضات، باعتبارها: لا تصلح كحل لأزمات المنطقة.

ورغم أن تلك الإجابة لا تتضمن بالضرورة إيجاد الحل الناجع لتلك المشكلات، فإنها لا تُبقى بالضرورة سوى مفهوم الإصلاح صالحاً للطرح فى الوقت الحالى.

لقد أدى اندلاع الانتفاضات إلى فوضى وخراب، وتردٍّ اقتصادى، وانتهاكات مفزعة لحقوق الإنسان، وحروب أهلية، وترسيخ مواقع للإرهاب، وتهديد للسلم والاستقرار العالميين، وأزمات هجرة ولاجئين مفزعة ومكلفة، وتضعضع السيادة الوطنية لدول كثيرة.

وبسبب القابلية الكبيرة للمنطقة للتأثر بالسياسات الخارجية، وخضوعها لحروب بالوكالة، وتدخلات متنوعة، لم يعد لإرادة شعوبها أى صلة بما سيحمله المستقبل من تطورات.

ثمة إشكال آخر لا يقل أهمية؛ إذ لا تكفى الموارد الاقتصادية المتوافرة والمنتظر توافرها فى بلدان الانتفاضات لتحقيق نقلات نوعية يمكن البناء عليها لتوطيد حكم أنظمة لن تنعم بالاستقرار، فى ظل تجاذبات وتدخلات وأدوار مناوئة فى الداخل والخارج.

وبسبب توافق القوى المتكالبة على اتخاذ نقاط ارتكاز فى بلدان الانتفاضات صيانة لمصالحها وتحقيقاً لمطامعها، وبسبب اتجاهها إلى سُبل تقاسم ومشاركة واحترام مناطق النفوذ ومساحاته، فى ظل اتقاء تداعيات الصدام، سيكون هناك مُحفّز إضافى لقبول أنظمة لا تقبل المساءلة ولا تحترم مقتضيات المصلحة الوطنية.

يُبلور هذا صورة ما ستشهده سوريا لاحقاً، وما يمثله عنوان «إعادة تأهيل بشار» من صياغة لمستقبل هذه الدولة: الإصلاح الطوعى التدريجى البطىء غير مضمون النتائج، فى مقابل مفهوم التغيير الجذرى الغامض ومجهول العواقب والمستمد من طاقة الانتفاض.